حمل المصحف

حمل المصحف

الخميس، 7 يوليو 2016

*صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم

صفة صلاة النبي ص

 بَابُ صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم
عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قالَ: ((أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِن خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِن الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِن خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ)).
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قالَتْ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بـ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السَّجْدَةِ، لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَويَ قَاعِدًا، وَكانَ يَقُولُ فِي كلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكان يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوع، وَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِن الرُّكُوعِ رفعهُمَا كَذَلِكَ، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ في السُّجُودِ.
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ، عَلَى الْجَبْهَةِ –وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ )).
عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إِذَا قَامَ إلى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ)) حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِن الرُّكوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلاَتِهِ كُلِّهَا حتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِن الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ.
عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: صَلََّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بن ِ أبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنَا وعِمْرَانُ بنُ حُصينٍ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ، فقالَ: قد ذَكَّرَنَي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، أَو قَالَ: صلَّى بِنَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
عن البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: رَمَقْتُ الصَّلاَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ والانْصِرافِ: قَرِيبًا مِن السَّوَاءِ.
وفي روايَةِ البخاريِّ: مَا خَلاَ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ: قَرِيبًا مِن السَّوَاءِ.
عن ثابتٍ البُنـانِيِّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: إِنِّي لاَ آلُو أَنْ أُصَـلِّيَ بِكُمْ كَما رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُصَلِّي بنَا. قالَ ثابتٌ: فَكانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لاَ أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ، انْتَصَبَ قَائِمًا، حتَّى يقولَ الْقائِلُ:قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السَّجْدَةِ مَكَثَ، حتَّى يَقُولَ القائِلُ: قَدْ نَسِيَ.
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَـلاَةً، ولاَ أَتَمَّ صَـلاَةً مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
عن أبِي قِلاَبَةَ – عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ- الْجَرْمِيِّ البَصْرِيِّ قالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فقالَ: إِنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأَبِي قِلاَبَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قالَ: مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هذَا، وكانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ.
عن عبدِ اللهِ بنِ مالكٍ - ابنِ بُحَيْنَةَ- رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ إِذَا صلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ.
عن أبِي مَسْلَمَةَ - سعيدِ بنِ يزيدَ - قالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ.
عن أبِي قتادةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
ولأبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ بنِ عبدِ شمسٍ فَإِذا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: ((اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)).

تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الأول: تصحيح الرواية)

حديثُ عائشةَ في الاستفتاحِ في الصلاةِ .
قال ابنُ دقيقِ العيدِ : سَهَى المُصنِّفُ في إيرادِه في هذا المكانِ ، فإنه مما انْفَرَدَ به مسلِمٌ عن البخاريِّ .

حديثُ أبي قُلابةَ قالَ : جاءَنا مالكُ بنُ الْحُوَيْرِثِ في مسجدِنا هذا .. الحديثُ .
هو من أَفرادِ البخاريِّ ، قال عبدُ الحقِّ في ( الجمْعِ بينَ الصحيحين ) : لم يُخرِّجْ مسلِمٌ هذا الحديثَ وسَهَى المُصنِّفُ في إيرادِه من المتَّفَق عليه ، وقد نَبَّهَ على هذا ابنُ دقيقِ العيدِ أيضاً ، قالَ : وأيضاً فإن البخاريَّ أخْرَجَه من طُرُقٍ منها روايةُ وُهَيْبٍ فأكثرُ ألفاظِ هذه الروايةِ التي ذكَرَها المُصنِّفُ هي روايةُ وُهَيْبٍ وفي آخِرِها في كتابِ البخاريِّ وإذا رفَعَ رأسَه في السجْدَةِ الثانيةِ جلَسَ واعتَمَدَ على الأرضِ وقامَ وفي روايةِ خالدٍ عن أبي قُلابَةَ عن مالكِ بنِ الْحُوَيْرِثِ الليثيِّ أنه رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإذا كان في وِتْرٍ من صلاتِه لم يَنهَضْ حتى يَستوِيَ قاعداً
قولُه : ((فسَكَتَ هُنَيِّةَ)) هو بضمِّ الهاءِ وفتْحِ النونِ وتشديدِ الياءِ بغيرِ همْزٍ تصغيرُ هَنَةَ وأصلُه هَنْوَةَ فلما صُغِّرَتْ صارت هَنَيْوَةَ فاجتَمَعَت واوٌ وياءٌ وسبُقِتْ إحداهما بالسكونِ فوَجَبَ قلْبُ الواوِ فاجتَمَعَت ياءان فأُدغِمَت إحداهما في الأُخرى فصارت هُنَيَّةَ قالَه النوويُّ وقالَ: من هَمَزَها فقد أَخطأَ وخالَفَه القُرطبِيُّ فضبَطَها بضمِّ الهاءِ وبالتصغيرِ وهمزةٍ مفتوحةٍ ورُوِىَ هُنَيْهَةَ بهاءَيْن وهو صحيحٌ والمرادُ به التقليلُ في الزمانِ .
قولُه : ((رأيتُ)) هو بضمِّ التاءِ والمرادُ بالسكوتِ هنا ضدُّ الجهْرَ لا ضِدَّ الكلامِ وإلا يَلزَمُ التدافعُ .
الدنَسُ: الوسَخُ وتَدَنَّسَ الثوبُ إذا وَسِخَ .
قولُه : ((والبَرَدُ)) هو بفتحِ الراءِ وهو معلومٌ لاقترانِه بالثلْجِ قالَ أبو محمَّدِ بنِ حزْمٍ : والفائدةُ في إيرادِ هذه المبالَغةِ أن ما غُسِلَ بالماءِ والثلْجِ والبَرَدِ أنْقَى مما غُسِلَ بالماءِ وحدَه فسألَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّه أن يُطَهِّرَه من الخطايا التطهيرَ الأعلى الذي يُوجِبُ جَنَّةَ المأوى .
قولُه : ((والقرءاةِ)) يَجوزُ فيه الجرُّ والنصبُ على مُقتضَى ما ذَكَرَه الشارحُ .
قولُه : ((بالحمْدُ للهِ)) هو برفْعِ الدالِ على الحكايةِ .
قولُه : ((لم يُشْخِصْ )) هو بضمِّ الياءِ الْمُثنَّاةِ تحتَ وإسكانِ الشينِ الْمُعجمَةِ ثم كسْرِ الخاءِ المعجَمَةِ ثم صادٍ مهمَلةٍ أي يَرفَعُ ومنه الشاخِصُ المرتَفِعُ.
قولُه : ((ولم يُصوِّبْه )) هو بضمِّ الياءِ وفتْحِ الصادِ المهمَلةِ وكسْرِ الواوِ المشدَّدَةِ أي لم يَخْفِضْه خفْضاً بليغاً بل يَعْدِلُ فيه بين الأشخاصِ والتصويبِ وفي ( مَجمَعِ الغرائبِ ) لعبدِ الغافِرِ الفارسيِّ أن هذا الحرْفَ بفتْحِ الصادِ وياءٍ بعدَها مشدَّدةٍ يُقالُ : صَبَّى رأسه يُصَبِّي إذا خَفَضَه جِدًّا قالَ بعضُهم : هو من صَبَا الرجلُ إلى الجاريةِ إذا مالَ إليها وقيلَ : هو من صَبأَ الرجلُ عن دِينِ قومِه إذا خرَجَ.
قالَ الأزهريُّ : وصوابُه لم يُصَوَّبْ .
قولُه : ((وكان يَفْرُشُ )) بضمِّ الراءِ وكسْرِها والضمُّ أشهَرُ وعدَّ ابنُ مَكِّيٍّ الكسْرَ من لَحْنِ العوامِّ وليس كذلك .
وعُقْبَةُ الشيطانِ: بضمِّ العينِ وفي روايةٍ عَقِبَ بفتحِ العينِ وكسْرِ القافِ وهو الصحيحُ وحَكَى القاضي عِياضٌ عن بعضِهم ضمَّ العينِ وضَعَّفَه .
قولُه : ((حين يَهْوِى)) يَجوزُ ضمُّ أوَّلِه وفتحُه فإن فعْلَه رباعىٌّ وثلاثيٌّ .
قولُه : ((إنى لا آلُو )) بالمدِّ في أوَّلِه وضمِّ اللامِ أي لا أُقْصِرُ وقيلَ : لا أستطيعُ والأُلُوُّ على وزْنِ العُتُوِّ والماضي آلَا .
وقولُه : ((أن أُصَلِّيَ)) أي في أن أصلِّيَ
قولُه : ((ما صَلَّيْتُ وراءَ إمامٍ قطُّ أخَفَّ صلاةً)) هو بالنصْبِ على التمييزِ .
البرَاءُ بنُ عازبٍ يَجوزُ في البَراءِ القصْرُ والمدُّ قالَه أبو عمرٍو الزاهدُ في (شرْحِ الفصيحِ ) وعازِبٌ والدُ البَرَاءِ صحابيٌّ أغفَلَه ابنُ عبدِ البَرِّ فلم يَذكُرْه في ( الاستيعابِ ) فاستَدْرَكَه عليه أبو إسحاقَ بنُ الأمينِ بفتْحِ الجيمِ ويَجوزُ في البصريِّ فتحُ الباءِ وكسْرُها .
وحَكَى الأزهريُّ في البصرةِ تثليثَ الياءِ ولم يَذكروا الضمَّ في النِّسبةِ إليها خوفاً من الاشتباهِ بالنِّسبةِ إلى بُصْرَى البلدِ المعروفةِ بالشامِ وطَلَباً للتخفيفِ .
قولُه : ((وهو حامِلٌ أُمامةَ )) يَجوزُ في أُمامَةَ أن تُنتصَبَ بما قبلَه وأن يُخفَضَ بإضافتِه وعَلامةُ جَرِّهِ الفتحةُ لأنه لا يَنصرِفُ وقد قُرِئَ { إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } بالوجهين ويَظْهَرُ أثرُ هذين التقديرين في شيئين أحدُهما في حاملٍ من جهةِ التنوينِ وتَرْكِه .
والثاني في بنتَ فيَجوزُ جرُّها ونَصبُها .
قولُه : ((عن عبدِ اللهِ بنِ مالكِ بنِ بُحَيْنَةَ )).
اعلَمْ أن بُحَيْنَةَ اسمُ أمِّه ولها صُحبةٌ كما قالَه ابنُ سعْدٍ وقالَ أبو نعيمٍ : أمُّ أبيه وزَعَمَ ابنُ الأثيرِ أن أباه له صُحبَةٌ أيضاً فعَلَى الأوَّلِ يُقالَ : عبدُ اللهِ بنُ مالكٍ بالجَرِّ منوَّناً وتكونُ بُحَيْنَةَ صفةً لعبدِ اللهِ لا لمالكٍ فتُرْفَعُ إن كان عبدُ اللهِ مرفوعاً وتُجَرُّ إن كان مجروراً وتُنصَبُ إن كان منصوباً وتُكتَبُ ابنُ بالألِفِ لأنه ليس بينَ عَلَمين لأنه صِفةٌ وكذلك كلُّ ما أَشْبَهَ ذلك كعبدِ اللهِ ابنِ أُبَيٍّ بنِ سَلولٍ وممن يُنسَبُ إلى أمِّه من الصحابةِ بلالُ بن حَمَامَةَ وسَهْلٌ وسُهَيْلٌ ابنا البيضاءِ ومُعاذٌ ومعوَّذٌ ابنا عَفْرَاءَ وعبدُ الرحمنِ بنُ حَسْنَةَ وشُرَحْبِيلُ بنُ حَسْنَةَ وغيرُهم .
قولُه : ((حتى يَبْدُوَ )) هو بفتحِ الواوِ لأنه منصوبٌ بأن مضْمَرَةٍ
بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَدِيثُ التاسعُ والسبعونَ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قالَ: ((أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِن الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالثَّلْجِ والمَاءِ وَالْبَرَدِ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (هُنَيْهَةً). بضمِّ الهاءِ وفتحِ النونِ وتسكينِ الياءِ، تصغيرُ هِنَةٍ. أيْ: شيءٍ يَسِيرٍ.
قَوْلُهُ: (والمرادُ هُنَا): سَكْتَةٌ لطيفةٌ.
قَوْلُهُ: (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي). أيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا.
قَوْلُهُ: (البَرَدِ). بالتَّحْرِيكِ: حَبُّ الغَمَامِ.
قَوْلُهُ: (الدَّنَسِ). بالتَّحْرِيكِ: الوَسَخُ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ دعاءِ الاستفتاحِ في الصلاةِ بهذا الدعاءِ وبغيرِهِ من الواردِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ مَوْطِنَ الاستفتاحِ بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ وقبلَ قراءةِ الفاتحةِ في الركعةِ الأُولَى فقطْ منْ كلِّ صلاةٍ.
الثَّالِثَةُ: أنْ يُسِرَّ بهِ ولوْ كانت الصلاةُ جَهْرِيَّةً.

الْحَدِيثُ الثمانونَ
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا قالَتْ: ((كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ بـ: {الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السَّجْدَةِ، لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَويَ قَاعِدًا، وَكانَ يَقُولُ فِي كلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكان يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (لَمْ يُشْخِصْ) بِضَمِّ الياءِ وإسكانِ الشِّينِ ثمَّ كَسْرِ الخاءِ، أيْ: لم يَرْفَعْهُ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يُصَوِّبْهُ) بِضَمِّ الياءِ وفتحِ الصادِ وكسرِ الواوِ المُشَدَّدَةِ. أيْ: لم يُخْفِضْهُ.
قَوْلُهُ: (عُقْبَةِ): بِضَمِّ العَيْنِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ هذهِ الأقوالِ والأفعالِ المذكورةِ بتكبيرةِ الإحرامِ وقراءةِ الفاتحةِ، والركوعِ والاعتدالِ بعدَهُ، والسجودِ والجلوسِ بعدَهُ، والتَّشَهُّدِ بعدَ الركعتَيْنِ والتسليمِ.
الثَّانِيَةُ: اسْتِحْبَابُ الإسرارِ بالبسملةِ، واستواءِ الظهرِ في الركوعِ، وافتراشِ رجلِهِ اليُسْرَى، ونَصْبِ اليُمْنَى في الجلوسِ.
الثَّالِثَةُ: كراهةُ الجلوسِ على عَقِبَيْهِ، أوْ يَنْصِبُهُمَا ويَجْلِسُ بينَهُمَا، وافتراشِ ذراعَيْهِ في السجودِ.

الْحَدِيثُ الحادي والثمانونَ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا، ((أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَرْفَعُ بيَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ للرُّكُوع، وَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِن الرُّكُوعِ رفعهُمَا كَذَلِكَ، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمِنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ في السُّجُودِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ رفعِ اليدَيْنِ عندَ تكبيرةِ الإحرامِ، وعندَ الركوعِ، وبعدَ الرفعِ منهُ.
الثَّانِيَةُ: أنْ يكونَ الرفعُ إلى مقابلِ المَنْكِبَيْنِ.
الثَّالِثَةُ: لا يُشْرَعُ الرفعُ في السجودِ.

الْحَدِيثُ الثاني والثمانونَ
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ، عَلَى الْجَبْهَةِ –وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ السجودِ على هذهِ الأعضاءِ السبعةِ جميعِهَا للأمرِ بهِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ الأنفَ تابعٌ للجبهةِ، فلا تَكْفِي بدونِهِ.

الْحَدِيثُ الثالثُ والثمانونَ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إلى الصَّلَاةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: ((سَمِعَ اللَّهُ لِمِنْ حَمدَهُ))، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِن الرُّكوعِ، ثُمَّ يَقُولُ –وَهُوَ قَائِمٌ-: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا حتَّى يَقْضِيَهَا. وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِن الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ)).

الْحَدِيثُ الرابعُ والثمانونَ
عنْ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ قالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ أَنَا وعِمْرَانُ بنُ حُصينٍ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ، فقالَ: قدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو قَالَ: صَلَّى بِنَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ تكبيرةِ الإحرامِ وأنْ تكونَ في حالِ القيامِ.
الثَّانِيَةُ: وُجُوبُ تكبيراتِ الركوعِ، والهُوِيِّ من القيامِ إلى السجودِ، والرفعِ منهُ إلى الجلوسِ، بينَ السَّجْدَتَيْنِ والسجدةِ الأُخْرَى، وبعدَ التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ، هذهِ التكبيراتُ واجبةٌ في كلِّ ركعةٍ من الصلاةِ عَدَا تكبيرةِ الإحرامِ.
الثَّالِثَةُ: وُجُوبُ التَّسْمِيعِ للإمامِ والمُنْفَرِدِ دونَ المَأْمُومِ.
الرَّابِعَةُ: التَّحْمِيدُ لكلٍّ مِن الإمامِ والمأمومِ والمُنْفَرِدِ في حالِ القيامِ.
الْخَامِسَةُ: وُجُوبُ الطُّمأنينةِ بعدَ الرفعِ من الركوعِ، وكونُ التكبيرِ في حالِ الانتقالِ.

الْحَدِيثُ الخامسُ والثمانونَ
عن البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: رَمَقْتُ الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلَسْتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ والانْصِرافِ: قَرِيبًا مِن السَّوَاءِ.
وفي روايَةِ البخاريِّ، مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ: قَرِيبًا مِن السَّوَاءِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الأَفْضَلُ أنْ يكونَ الركوعُ والاعتدالُ منهُ، والسجودُ والاعتدالُ متساويةَ المقدارِ، فلا يُطِيلُ المُصَلِّي بَعْضَهَا على بعضٍ.
الثَّانِيَةُ: أنْ يكونَ القيامُ للقراءةِ والجلوسُ للتَّشَهُّدِ الأخيرِ أَطْوَلَ منْ غَيْرِهِمَا، وتكونَ القراءةُ مناسبةً لتطويلِ الصلاةِ أوْ تَخْفِيفِهَا.
الثَّالِثَةُ: ثبوتُ الطمأنينةِ في الاعتدالِ من الركوعِ والسجودِ.

الْحَدِيثُ السادسُ والثمانونَ
عنْ ثابتٍ البُنـانِيِّ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَـلِّيَ بِكُمْ كَما رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بنَا. قالَ ثابتٌ: فَكانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ، انْتَصَبَ قَائِمًا، حتَّى يقولَ الْقائِلُ: قَدْ نَسِيَ. وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السَّجْدَةِ، مَكَثَ حتَّى يَقُولَ القائِلُ: قَدْ نَسِيَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الاعتدالُ بعدَ الركوعِ وطولُ القيامِ.
الثَّانِيَةُ: الاعتدالُ بعدَ السجودِ وطولُ الجلوسِ، وفي هذا رَدٌّ على المُتَلَاعِبِينَ في هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ بِتَرْكِ الطمأنينةِ.

الْحَدِيثُ السابعُ والثمانونَ
عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَـلَاةً، ولَا أَتَمَّ صَـلَاةً مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أنْ يَأْتِيَ الإمامُ بالصلاةِ خفيفةً حتَّى لا يَشُقَّ على المُصَلِّينَ، وتامَّةً حتَّى لا يَنْقُصَ منْ ثوابِهَا شيءٌ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ صلاةَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ صلاةٍ، فَلْيَحْرِص المُصَلِّي على مَوَاقِيتِهَا ومتابعتِهِ فيها.

الْحَدِيثُ الثامنُ والثمانونَ
عنْ أبِي قِلَابَةَعبدِ اللَّهِ بنِ زيدٍ- الْجَرْمِيِّ البَصْرِيِّ قالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فقالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأَبِي قِلَابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قالَ: مِثْلَ صَلَاةِ شَيْخِنَا هذَا، وكانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ جلسةِ الاستراحةِ، وأنَّ مَوْضِعَهَا عندَ النهوضِ من السجودِ إلى القيامِ، وأنَّ القصدَ فيها الاستراحةُ، فلا يُشْرَعُ لها تكبيرٌ ولا ذِكْرٌ.

الْحَدِيثُ التاسعُ والثمانونَ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مالكٍ- ابنِ بُحَيْنَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، ((أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ تَفْرِيجِ اليَدَيْنِ وإبعادِهِمَا عن الجَنْبَيْنِ في السجـودِ؛ لأنَّ هذا عُنوانُ النشاطِ في العبادةِ وهيئـةٌ حسنةٌ في الصلاةِ.

الْحَدِيثُ التسعونَ
عنْ أبِي مَسْلَمَةَ- سعيدِ بنِ يزيدَ- قالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَكانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ الصلاةِ في النَّعْلَيْنِ لكنْ بعدَ تَنْظِيفِهِمَا.
الثَّانِيَةُ: أنَّ غلبةَ الظنِّ في نَجَاسَتِهِمَا لا يُخْرِجُهُمَا عنْ أصلِ الطهارةِ فيهما.

الْحَدِيثُ الحادي والتسعونَ
عنْ أبِي قتادةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، ((أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
ولأبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ بنِ عبدِ شمسٍ، ((فَإِذا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: جَوَازُ مثلِ هذهِ الحركةِ في صلاةِ الفريضةِ والنافلةِ والإمامِ والمأمومِ والمُنْفَرِدِ، ولوْ بلا ضرورةٍ إليها.
الثَّانِيَةُ: جَوَازُ ملامسةِ وحَمْلِ مَنْ تَظُنُّ نَجَاسَتَهُ اسْتِصْحَابًا لأصلِ الطهارةِ.

الْحَدِيثُ الثاني والتسعونَ
عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ الاعتدالِ في السجودِ والنَّهْيُ عنْ بسطِ الذراعَيْنِ فِيهِ.
الثَّانِيَةُ: كراهةُ مشابهةِ الحيواناتِ لا سِيَّمَا في الصلاةِ. بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ
يذكرُ المصنِّفُ في هذا البابِ طرفاً من الأحاديثِ الصحيحةِ في صفةِ صلاةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، وصلاتُهُ هي الصَّلاةُ التامَّةُ الكاملةُ، التي لا يتطرَّقُ إليها النقصُ أو الخللُ، وهو المُشرِّعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فيجبُ اتِّباعُهُ، وتقديمُ سُنَّتِهِ على كلِّ قولٍ.
وقد قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوِني أُصَلِّي " فيجبُ علينا معرفةُ صلاتِهِ ومراعاتُها. ونظراً إلى أنَّ أفعالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بيانٌ للأوامرِ المُوجِبَةِ لفعلِ الصَّلاةِ، فإنَّ أفعالَهُ في صلاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ تدلُّ على الوجوبِ. ومَن صرفَها عنه إلى غيرِهِ فعليه تقديمُ الدليلِ.

***
الحديثُ التاسعُ والسبعونَ
79- عن أبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟
قالَ:" أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ " .

(79) غريبُ الْحَدِيثِ:
1ـ " هُنَيْهَةً " قَالَ في القاموسِ: (الهِنْوُ) بالكسرِ، الوَقْتُ. وفي الْحَدِيثِ هُنَيَّةٌ مُصغَّرةُ هُنَةٍ، وهي بضمِّ الهاءِ، وفتحِ النونِ وتشديدِ الياءِ. بمعنَى: قليلٌ مِنَ الزَّمانِ.
وَأَصْلُهَا (هَنْوَةٌ) أي: شيءٌ يسيرٌ، ويُروَى هُنَيْهَةٌ بإبدالِ الياءِ هاءً.
قُلْتُ: الْمُرَادُ هنا: أنْ يسكُتَ سَكتةً لطيفةً.
2ـ " الثَّلجُ والبَرَدُ " البَرَدُ بالتحريكِ: حَبُّ الغمامِ.
3ـ أرأيتُ سُكوتَكَ ـ بضمِّ تاءِ رَأَيْتُ. والْمُرَادُ بالسكـوتِ ضِدُّ الجهرِ لا ضِدُّ الكلامِ. ويدلُّ عَلَيْهِ عبارةُ " ما تَقُولُ:؟ ".
4ـ " الدَّنَسُ " بفتحِ الدَّالِ والنونِ: الوسخُ.
5ـ " بأبِي أنتَ وأمِّي ": الباءُ مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ، والتقديرُ أنت مَفدِيٌّ بأبِي وأمِّي.

المعنَى الإجماليُّ:
كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كَبَّر للصَّلاَةِ تكبيرَةَ الإحرامِ، خَفَّضَ صَوتَهُ مُدَّةً قَليلةً، قبلَ أنْ يقرأَ الفاتحةَ. وكان الصَّحَابَةُ يعلمونَ أنَّه يَقُولُ: شيئاً في هذِهِ السَّكتةِ لذا قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: أَفديكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! بأبِي وأمِّي، ماذا تَقُولُ: في هذِهِ السَّكتةِ التي بينَ التكبيرِ والقراءةِ.
فقالَ: أقولُ: " اللَّهمَّ باعِدْ بَينِي وبينَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوبُ الأبيضُ مِنَ الدنسِ، اللَّهمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ".
وهذا دعاءٌ في غايةِ المُناسبةِ في هذا المَقامِ الشريفِ، موقفِ المُناجاةِ؛ لأنَّ المُصَلِّيَ يَتوجَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى في أنْ يَمحوَ ذُنوبَه وأنْ يُبْعِدَ بينَهُ وبينهَا إِبْعَادًا لا يحصلُ معه لِقاءٌ، كما لا لِقاءَ بينَ المشرقِ والمغربِ أبداً، وأنْ يُزيلَ عَنْهُ الذُّنُوبَ والخَطايا ويُنقِّيه منهَا، كما يُزالُ الوسخُ مِنَ الثوبِ الأبيضِ الذي يَظهرُ أثرُ الغسلِ فِيهِ، وأنْ يَغسلَه مِنْ خطاياهُ ويُبرِّدَ لَهِيبَهَا وَحرَّهَا، بهذهِ المُنقِّياتِ الباردةِ: الماءِ، والثلجِ، والبَرَدِ. وهذهِ تشبيهاتٌ، في غايةِ المُطابقةِ.

أحكامُ الْحَدِيثِ:
1ـ استحبابُ دعاءِ الاستفتاحِ في الصَّلاَةِ.
2ـ أنَّ مكانَه بعدَ تكبيرةِ الإحرامِ، وقبلَ قراءةِ الفاتحةِ في الرَّكعةِ الأولَى مِنْ كُلِّ صَلاَةٍ.
3ـ أنْ يُسِرَّ بِهِ ولو كانتِ الصَّلاَةُ جَهريَّةً.
4ـ أنَّه لا يُطالُ فِيهِ الدُّعَاءُ، ولا سيَّما في الْجَمَاعةِ للصلواتِ المكتوبةِ.
5ـ حِرصُ الصَّحَابَةِ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُم - علَى تَتَبُّعِ أحوالِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حركاتِهِ وسكَناتِه.
6ـ أنَّه يَنبغِي في مواطنِ الدُّعَاءِ أنْ يُلِحَّ الإنسانُ ويُكثِرَ في طلبِ الشيءِ، ولو بِطريقِ تَرادُفِ الألفاظِ.
فإنَّ هذهِ الدعواتِ تَدورُ كلُّّهَا علَى مَحْوِ الذُّنُوبِ والإبعادِ عنهَا، ومعاني الماءِ والثلجِ، والبرَدِ، مُتقاربةٌ. والمقصودُ مِنْهُ مُتَّحِدٌ. وهو الإنقاءُ مِنْ حرارةِ الذُّنُوبِ بهذهِ الموادِِّ الباردةِ.
فائدَتانِ:
الأولَى: ثَبتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفتاحاتٌ كثيرةٌ للصَّلاَةِ.
منهَا هذا الدُّعَاءُ الذي معنا " اللَّهمَّ باعِدْ بيني وبينَ خَطايَايَ…إلخ ".
ومنهَا:" وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ…إلخ ".
ومنهَا: " سُبحانَك اللَّهمَّ وبِحَمْدِكَ وتَبَارَكَ اسْمُكَ…إلخ ".
وكُلُّهَا جَائزةٌ، لأنَّهَا واردةٌ. ولكنَّ الإمامَ أحمدَ اختارَ الأخيرَ منهَا: " سُبحانَك اللَّهم…إلخ " لكونِه مُحتَوياً علَى تمجيدِ اللَّهِ، وتعظيمِه، ووحدَانِيَّتِه. وكان عُمَرُ يَجهرُ بِهِ لِيُعَلِّمَه للناسِ.
وينبغي للمُصلِّي أنْ لا يَقتصِرَ دائماً علَى واحدٍ منهَا، بل يَقولُهَا كلَّهَا، لِيحصلَ لَهُ كمالُ الاقتداءِ، وإحياءُ جميعِ السُّنَّةِ فيهَا، ويَجعَلُ القِصارَ لصَلاَةِ الْجَمَاعةِ، والطَوالَ لصَلاَةِ اللَّيْلِ.
الثانيةُ: مِنَ المعلومِ أنَّ الماءَ الساخِنَ أبلغُ في إزالةِ الأوساخِ والإنقاءِ مما هو مَذكورٌ في الدُّعَاءِ المأثورِ. فَكيف عَدلَ عَنْهُ إلَى الثلجِ والبرَدِ، مع أنَّ المقصودَ طلبُ الإنقاءِ والتنظيفِ؟
الجوابُ: قد حصلَ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَلمُّساتٌ كثيرةٌ في طلبِ المُناسبةِ. وأحَسنُهَا ما ذكرَهُ ابنُ القيِّمِ عَنْ شيخِ الإسلامِ ومعناه:
لمَّا كانَ للذنوبِ حرارةٌ، ناسَبَ أنْ تَكُونَ المادَّةُ المُزيلةُ هذهِ الباردةَ، لِتطفئَ هذهِ الحرارةَ وذاك التلَهُّبَ.

***
الحديثُ الثمانونَ
80- عن عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنهُا قالتْ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بـ (الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً، وَكَانَ يَقُولُ فِي كلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ " .

(80) المعنَى الإجماليُّ:
تصِفُ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا بهذا الْحَدِيثِ الجليلِ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّه كانَ يفتتحُ الصَّلاَةَ بتكبيرةِ الإحرامِ، فيقولُ: اللَّهُ أكبرُ. ويفتتحُ القراءةَ بفاتحةِ الكتابِ، التي أوَّلُهَا الحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمينَ. وكان إذا رَكَعَ بعدَ القيامِ، لم يرفعْ رَأْسَه ولم يَخفضْهُ، وإنَّما يَجعلُه مُستوياً مُستقيماً. وكان إذا رفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ انتصَبَ واقِفاً قبلَ أنْ يَسجُدَ.
وكان إذا رَفعَ رَأْسَه مِنَ السجدةِ، لم يَسجدْ حتَّى يَستوِيَ قاعداً. وكان يَقُولُ بعدَ كلِّ رَكْعَتَيْنِ إذا جلسَ:" التحياتُ لِلَّهِ والصلواتُ…إلخ " وكان إذا جَلَس، افترشَ رِجْلَه اليُسرَى وَجَلَس عليهَا، ونَصَب رِجْلَهُ اليُمنَى. وكان يَنهَى أنْ يَجلِسَ المُصلِّي في صَلاَتِهِ كجلوسِ الشيطانِ، وذلك بأنْ يَفرِشَ قَدميْهِ علَى الأرضِ، ويَجلِسَ علَى عَقِبَيْهِ، أو يَنصبَ قَدمَيه، ثم يَضعَ أَلْيتَيهِ بينهما علَى الأرضِ، كما يَنهَى أنْ يفترشَ المُصلِّي ذِراعَيه في السُّجُودِ كافتراشِ السَّبُعِ، وكما افتتحَ الصَّلاَةَ بتعظيمِ اللَّهِ وتكبيرِه، خَتمهَا بطلبِ السلامِ للحاضرِينَ مِنَ الملائكةِ والمُصلِّينَ، ثم علَى جميعِ عِبادِ اللَّهِ الصالحينَ، والأوَّلِين والآخِرينَ، فعلَى الْمُصَلِّي ملاحظةُ هذا العمومِ في دعائِهِ.

ملاحظةٌ:
الْحَدِيثُ رقم (80) لم يُخرِّجْه إلا مُسْلِمٌ فقط، وله عِلَّةٌ، وهي أنَّه أتَى مِنْ طريقِ أبي الجوزاءِ عَنْ عَائِشَةَ. وأبو الجوزاءِ لم يَسمعْ مِنْ عَائِشَةَ.
وأخرَجَهُ مُسْلِمٌ أيضاً مِنْ طريقِ الأوزاعيِّ مُكاتَبةً، لا سَماعاً.

غريبُ الْحَدِيثِ:
1ـ بـ (الحمدُ للهِ): الرفعُ علَى الحكايةِ.
2ـ " لمْ يُشْخِصْ ": بضمِّ الياءِ وإسكانِ الشينِ المعجمةِ، ثم كَسْرِ الخاءِ المعجمةِ، ثم صادٍ مُهملةٍ. أي: لم يَرْفَعْهُ، ومنه الشَّاخِصُ للمُرتفِعِ.
3ـ " لَمْ يُصَوِّبْهُ ": بضمِّ الياءِ، وفتحِ الصادِ المُهملةِ. وكسرِ الواوِ المُشدَّدةِ. أي: لم يُخَفِّضْهُ خَفْضاً بليغاً.
4ـ " يَفْرُشُ ": بضمِّ الراءِ وكسرِهَا، والضمُّ أشهرُ.
5ـ " عُقبةِ ": بضمِّ العينِ. فَسَّره أبو عبيدٍ وغيرُه بالإقعاءِ المَنهِيِّ عَنْهُ.
6- " يَستفتحُ " أَى: يَفتحُ فالسِّينُ للتأكيدِ لا للطلبِ

أحكامُ الْحَدِيثِ:
1ـ ما ذَكرَتْه عَائِشَةُ هذا مِنْ صفةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو حالُهُ الدَّائمةُ. حيث إنَّ التعبيرَ بـ (كان) يُفيدُ ذلك.
2ـ وجوبُ تكبيرةِ الإحرامِ التي تُحرِّمُ كلَّ قولٍ وفعلٍ يُنافي أقوالَ الصَّلاَةِ وأفعالِهَا، وأنَّ غيرَ هذهِ الصيغةِ لا يَقُومُ مقامَهَا للدخولِ في الصَّلاَةِ؛ وتَعيينُ التكبيرةِ مِنَ الأمورِ التَّعبُّديَّةِ وهي أمورٌ تَوقِيفيَّةٌ.
3ـ وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ بدونِ بَسملةٍ، ويأتي استحبابُ قراءتِهَا سِراًّ إنْ شاءَ اللَّهُ.
4ـ وجوبُ الرُّكُوعِ، والأَفْضَلُ فِيهِ الاستواءُ بلا رفعٍ، ولا خفضٍ.
5ـ وجوبُ الرَّفعِ مِنَ الرُّكُوعِ، ووجوبُ الاعتدالِ في القيامِ بعدَهُ.
6ـ وجوبُ السُّجُودِ، ووجوبُ الرَّفعِ مِنْهُ، والاعتدالِ قاعداً بعدَه.
7ـ وجوبُ التَّشَهُّدِ بعدَ كلِّ رَكْعَتَيْنِ، فإنْ كانت الصَّلاَةُ ثُنائِيَّةً سَلَّم بعدَه، وإلا قَامَ.
8ـ مشروعيَّةُ افتراشِ الْمُصَلِّي رِجْلَه اليُسرَى ونَصْبِ اليُمْنَى في الجلوسِ في غيرِ التَّشَهُّدِ الأخيرِ الذي فَضيلَتُه التَّورُّكُ. فقد وَرَدت بذلك الأحاديثُ، والافتراشُ والتَّورُّكُ خاصُّ بالرجالِ دونَ النساءِ؛ لِمَا أخْرجَهُ أَبو داودَ في الْمَرَاسيلِ مِنْ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ علَى امْرأتينِ تُصلِّيان فَقَالَ:" إِذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى الإرْضِ فِإنَّ الْمَرْأَةَ ليس في ذِلك كَالرَّجُلِ ". ورواهُ البيهقيُّ مَوصُولاً.
9ـ النَّهْيُ عَنْ مُشابهةِ الشيطانِ في جُلوسِهِ، وذلك بأنْ يَجلسَ علَى عَقبيْهِ ويَفرِشَ قَدميْهِ علَى الأرضِ، أو يَنصبَهُما ويَجلِسَ بينهما علَى الأرضِ، أوْ يَنصبَهما ويجلسَ علَى عَقِبَيْهِ. قَالَ في شرْحِ المُنتهَى: وِكلْتَا الجِلْسَتينِ مَكْرُوهٌ.
10ـ النَّهْيُ عَنْ مُشابهةِ السَّبُعِ في افتراشِهِ وذلك بأنْ يَبسِطَ المُصَلِّي ذِرَاعَيهِ فِى الأرضِ فإنَّه عنوانُ الكَلِّ والضَّعفِ.
11- وجوبُ ختمِ الصَّلاَةِ بالتَّسليمِ وهو دعاءٌ للمُصلِّين والحاضِرينَ والغائِبينَ الصَّالحينَ بالسلامِ مِنْ كُلِّ الشُّرورِ والنَّقائصِ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
الصحيحُ عندَ الأصولِيِّينَ: أنَّ أفعالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تدلُّ علَى الوجوبِ، وإنَّما تَدلُّ علَى الاستحبابِ إلا إذا ورَدَ ما يَقتضِي ذلك.
وهذهِ الأفعالُ والأقوالُ الموصوفةُ في هذا الْحَدِيثِ، تدلُّ علَى الوجوبِ باقترانِ حَدِيثِ:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وهذا الأصلُ فيهَا ولَكِنْ يُوجدُ في وجوبِ بعضِهَا خلافٌ بينَ الْعُلَمَاءِ، لتعارُضِ الأدلَّةِ.
فمِن ذلك التَّشهدُ الأَوَّلُ، والجلوسُ لَهُ في الصَّلاَةِ ذاتِ التَّشهُّدَينِ.
فقد ذهبَ الإمامُ أحمدُ، واللَّيْثُ، وإسحاقُ، وداودُ، وأبو ثورٍ، والشَّافعيُّ في إحدَى الرِّوايتينِ عَنْهُ: إلَى وُجوبِهما.
مُسْتَدِلِّينَ بالأحاديثِ الواردةِ في التَّشهُّدِ مِنْ غيرِ تَقييدٍ بِتشَهُّدٍ أخيرٍ.
فمنهَا هذا الْحَدِيثُ الذي معنا، ومنهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الذي رواه النَّسَائِيُّ، ورواه الإمامُ أحمدُ مِنْ طُرُقٍ رِجالُهَا ثِقاتٌ وهو " أنَّ مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ للهِ…إلخ ".
وذهبَ الإئِمَّةُ أبو حنيفةَ ومالكٌ والشَّافعيُّ في الرِّوَايَةِ الأخرَى عَنْهُ، إلَى استحبابِهَا. ودَليلُهم أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَركَهما سَهْواً، ولم يَرجِعْ إليهما.
ولم يُنكرْ علَى الصَّحَابَةِ حين تَابَعوه علَى تَرْكِهما، وإنَّما جَبرُوهما بسجودِ السهوِ.
والجوابُ: أنَّ الرجوعَ إليهما إنَّما يَجِبُ إذا ذَكرَ الْمُصَلِّي قبلَ أنْ يَعتمِدَ قائماً؛
لِما رَوَى أبو داودَ، عَنِ المغيرةِ بْنِ شُعبةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِماً، فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِماً فَلاَ يَجْلِسْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ " وسجودُ السهوِ يُجبِرُ الواجبَ وَالمَسنونَ.
واخْْتَلَفُوا في الصِّفَةِ المُستحبَّةِ في الجلوسِ.
فذهبَ الحنفيَّةُ إلَى الافتراشِ في جميعِ الصَّلاَةِ، سواءً بينَ السجدتينِ أو التَّشهُّدَينِ، الأَوَّلِ، والأخيرِ. ويُقابِلُهم المالكيَّةُ فهم يَرَوْنَ مَشروعيَّةَ التورُّكِ في كُلِّ جلساتِ الصَّلاَةِ سَواءً ما كانَ منهَا للتَّشهُدينِ أو كانَ بينَ السجدتَينِ.
وذهبَ الشَّافعيَّةُ إلَى الافتراشِ في التشهدِ الأَوَّلِ مِنَ الصَّلاَةِ ذاتِ التشهُّدَيْنِ وإلَى التورُّكِ في التشهدِ الأخيرِ، سواءٌ أكانَتِ الصَّلاَةُ ثُنائيةًَ أم أكثرَ مِنْ ذلك.
وذهبَ الْحَنَابِلةُ إلَى الافتراشِ في التَّشهُّدِ الأَوَّلِ، وفي التشهدِ الأخيرِ إذا كانت الصَّلاَةُ ليس فيهَا إلا تَشهُّدٌ وَاحِدٌ، وإلَى التورُّكِ في التشهدِ الأخيرِ مِنَ الصَّلاَةِ، ذاتِ التشَهُّدينِ.
ودليلُ الحنفيَّةِ، ما رواه سعيدٌ بنُ منصورٍ، عَنْ وائلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ:" صَلَّيتُ خلفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمَّا قَعدَ وتَشهَّدَ، فَرشَ قَدَمَه اليُسرَى علَى الأرضِ وَجَلَس عليهَا ".
وما رواه أحمدُ عَنْ رفاعةَ بْنِ رافعٍ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأعرابِيِّ:" إِذَا جَلَسْتَ فَاجْلِسْ عَلَى رِجْلِكَ الْيُسْرَى ".
وبِما أخرَجهُ التِّرمذيُّ وصحَّحه، مِنْ حَدِيثِ أبي حُميدٍ:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلسَ. يعنِي: للتشهُّدِ فافترشَ رِجْلَه اليُسرَى، وأقْبلَ بصدرِ اليُمنَى علَى قِبلَتِهِ.
وأما صِفةُ الجلوسِ بينَ السَّجدتينِ فهو الافتراشُ عندَ الشَّافعيَّةِ والْحَنَابِلةِ.
ووجهُ الدَّلالةِ مِنْ هذِهِ الأحاديثِ أنَّ رُواتَهَا ذَكروا الافتراشَ للتشهدِ، ولم يُقيِّدوه بالأَوَّلِ. واقتصارُهم عليهَا بلا تَعرُّضٍ لغَيرِهَا يُشعِرُ بأنَّ هذهِ الصَّفّةَ للتشَهُّدينِ جميعاً.
ودليلُ المالكيَّةِ ما روِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:" أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَ يجلسُ في وسطِ الصَّلاَةِ وفي آخرِها مُتورِّكاً ". رواه أحمدُ في مسندِهِ قَالَ: الهَيثَمِيُّ: ورِجالُه مُوثَّقونَ.
ودليلُ الشَّافعيَّةِ والْحَنَابِلةِ: أنَّ الأحاديثَ التي وَردتْ في الافتراشِ في التَّشهدِ بِرواتِهَا التشهدِ الأَوَّلِ، حيث وَرَد في البُخاريِّ عَنْ أبيِ حُميدٍ السَّاعدِيِّ قولُه:" فإذا جَلسَ في الركعةِ الأخيرةِ، قَدَّم رِجْلَه اليُسرَى، وَنَصب الأخرَى وَقَعدَ علَى مَقعدتِهِ ".
وما ذكرهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبيرِ:" أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَجعلُ قدَمَه اليُسرَى بينَ فَخِذهِ وَساقِه، ويَفرشُ قَدمَه اليُمنَى ".
وفي حَدِيثِ أبي حُميدٍ أيضاً، عندَ أبيِ حاتمٍ في صحيحِهِ وفيهِ " حتَّى إِذَا كَانَتِ السَّجْدَةُ الَّتِي فيهَا التَّسْلِيمُ، أَخْرَجَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ عَلَى شِقِّهِ الإيْسَرِ مُتَوَرِّكاً ".
ولكنْ وقعَ اختلافٌ بينَ الشَّافعيَّةِ والْحَنَابِلةِ في الصَّلاَةِ التيِ ليس فيهَا إلا تَشهُّدٌ واحدٌ.
فالشَّافعيَّةُ يَرونَ أنَّ فِيهِ التَّورُّكَ؛ لأنَّ قولَهُ في حَدِيثِ أبي حُميدٍ " فَإِذَا جَلَسَ في الرَّكْعَةِ الأخيرَةِ…إلخ " عَامٌّ في الجلوسِ الأخيرِ كُلِّه، سواءٌ كانَ في صَلاَةٍ ثُنائيةٍ أو غيرِهَا.
والْحَنَابِلةُ يقولونَ: إنَّ التورُّكَ خاصٌّ بالتشهدِ الأخيرِ مِنَ الصَّلاَةِ ذاتِ التشهُّدينِ. ويَرونَ أنَّ سِياقَ حَدِيثِ أبي حُميدٍ يَدُلُّ علَى ذلك؛ لأنَّه ذَكَرَ صِفةَ جلوسِهِ في التشهدِ الأَوَّلِ وقيامِه مِنْهُ، ثم ذكرَ التورُّكَ، وقصَدَ بِهِ التشهدَ الأخيرَ.
وعلَّلوا لذلك بأنَّ التورُّكَ بالصَّلاَةِ ذاتِ التشهُّدينِ، ليكونَ فَرْقاً بينَ الجلوسَينِ.
وإذا كانَ مُفترِشاً في الأَوَّلِ صارَ مُستعدًّا للقيامِ، مُتهيِّئاً لَهُ، أمَّا الثاني، فيكونُ فِيهِ متورِّكاً؛ لأنَّه مُطمئِنٌّ.
ورجَّحَ ابنُ القَيِّمِ هذا الافتراشَ في زادِ المَعادِ ولكن رَدَّ قَولَهُ الشوكَانِيُّ في نَيْلِ الأوطارِ واللَّهُ أَعْلَمُ.
وأَفْضَلُ التشهدِ، تَشهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وهو أصحُّهَا، ولذا فقد أجمَعَ الْعُلَمَاءُ علَى اختيارِهِ. وصِفَتُه: [التَّحياتُ لِلَّه والصَّلَوَاتُ الطيِّباتُ، السلامُ عليك أيهَا النَّبِيُّ ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، السلامُ علينا وعلَى عِبادِ اللَّهِ الصَّالحينَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه].
وأجمعَ الْعُلَمَاءُ علَى مشروعيَّةِ التسليمِ، ولكن اخْْتَلَفُوا: هلْ المشروعُ تَسليمتانِ أو تسليمةٌ واحدةٌ؟ والصحيحُ أنَّ المشروعَ تَسلِيمتانِ؛ لصحَّةِ أحادِيثِهما وضَعفِ أحاديثِ التسليمةِ الواحدةِ.
وعلَى فرْضِ صحَّةِ أحاديثِ التَّسليمةِ، فإنَّ أحاديثَ التَّسليمَتينِ أتَتْ بزيادةٍ لا تُنافَى، والزيادةُ مِنَ الثقةِ مقبولةٌ.
واخْْتَلَفُوا في جوابِ التسليمِ.
فذهبَ الحنفيَّةُ إلَى عدمِ وجوبِه، مُسْتَدِلِّينَ بما أخرجَه التِّرمذيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا رَفَعَ الإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ وَقَعَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ ".
واسْتَدَلُّوا بحَدِيثِ المُسيءِ في صَلاَتِهِ، حيثُ لم يأمرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتسليمِ، وأُجيبَ أنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، اتَّفق الحُفَّاظُ علَى ضعفِهِ.
وقالَ التِّرمذيُّ: هذا حَدِيثٌ إسنادُه ليس بذاك القَوِّيِّ.
أمَّا حَدِيثُ المسيءِ فلا يُنافي الوجوبَ، فإنَّ هذا زيادةٌ، وهي مقبولةٌ.
وذهبَ جمهورُ الصَّحَابَةِ والتابِعينَ، ومن أصحابِ المذاهبِ، الشَّافعيَّةُ، والْحَنَابِلةُ إلَى الوجوبِ، مُسْتَدِلِّينَ بإدامةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، مع قولِهِ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمونِي أُصَلِّي " وبما ثَبتَ عندَ أصحابِ السُّننِ " تَحْرِيمُهَا التَّكبيرُ، وتَحليلُهَا التسليمُ ".

***
الحديثُ الحادي والثمانونَ
81- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضيَ اللَّهُ عنهُما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ كانَ يَرْفَعُ يديهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَبَّرَ للرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ: رفعهُمَا كَذَلِكَ، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ في السُّجُودِ " .

(81) المعنَى الإجماليُّ:
الصَّلاَةُ مأدُبةٌ كريمةٌ، جَمعتَ كلَّ ما لَذَّ وطَابَ، فكلُّ عُضوٍ في البدنِ، لَهُ فيهَا عِبادةٌ خاصَّةٌ. ومن ذلك، اليدانِ. فلهما وظائفُ، منهَا رَفعُهما عندَ تكبيرةِ الإحرامِ زينةً للصَّلاَةِ، وإشارةً إلَى الدخولِ علَى اللَّهِ، ورفعَ حجابِ الغفلةِ، بينَ المُصلِّيِ وبين رَبِّه، ويكونُ رَفعُهما إلَى مُقابلِ مَنكِبَيْه، وَرفْعُهما أيضاً للرُّكوعِ في جميعِ الرَّكعاتِ، وإذا رَفَع رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ في كُلِّ ركعةٍ.
وفي هذا الْحَدِيثِ التصريحُ مِنَ الرَّاويِ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يفعلُ ذلك في السُّجُودِ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أجمعَ الْعُلَمَاءُ علَى مشروعيَّةِ رفعِ اليديْنِ عندَ تكبيرةِ الإحرامِ لتواتُرِ الأحاديثِ في ذلك، حيث رُوِيَ عَنْ خمسينَ صَحابياًّ، منهم الْعَشَرَةُ المُبشَّرونَ بالجَنَّةِ. واختلفَ الْعُلَمَاءُ في رفعِ اليدينِ عندَ غيرِهَا.
فذهبَ جمهورُ الصَّحَابَةِ والتابعِينَ، ومَن بعدَهم ـ ومنهم الإمامانِ الشَّافعيُّ وأحمدُ ـ: إلَى استحبابِ ذلك في هذِهِ الثلاثةِ مواضعَ المذكورةِ في هذا الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ المَدينِيِّ: هذا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ علَى الخَلْقِ، ومَن سَمِعه فعليهِ أنْ يعملَ بِهِ. وقالَ ابنُ القيِّمِ: رَوَى الرَّفعَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذِهِ المواطنِ الثلاثةِ نحوٌ مِنْ ثلاثينَ نَفْساً، واتَّفق علَى روايتِهَا الْعَشَرَةُ. وقالَ الحاكمُ: لا نَعلمُ سُنَّةً اتَّفق علَى رُوايتِهَا الخلفاءُ الأربعةُ، ثم الْعَشَرَةُ، فمَن بعدَهم مِنْ أكابرِ الصَّحَابَةِ غيرَ هذهِ السُّنَّةِ.
وفي روايةٍ عَنِ الإمامِ أحمدَ اخْتارَهَا المجدُ، وحفيدُهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وصَاحِبا "الفائقِ والفروعِ"، واختيارُ شَيخِنا عبدِ الرحمَنِ السَّعديِّ وروايةٌ للإمامِ الشَّافعيِّ، وطائفةٍ مِنْ أصحابِهِ، وجماعةٍ مِنْ أهلِ الْحَدِيث: أنَّ رَفْعَ اليدينِ يُستحبُّ في موضعٍ رابعٍ، وهو إذا قامَ مِنَ التشهدِ الأَوَّلِ في الصَّلاَةِ ذاتِ التَّشهدينِ؛
لِما روَى البُخاريُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَ يَفعلُهُ؛
ولِما في حَدِيثِ أبي حُميدٍ عندَ أبيِ داودَ، والترمذيِّ وصحَّحَهُ: " ثم إذا قامَ مِنَ الرَكْعَتَيْنِ، رفعَ يديْهِ حتَّى يُحاذِيَ بهما مَنكِبَيْه “.
وذهبَ مالكٌ مِنْ أشهرِ الرواياتِ عَنْهُ، وأبو حنيفةَ، إلَى أنَّه لا يُستحبُّ رفعُ اليدينِ في غيرِ تكبيرةِ الإحرامِ، وحُجَّتُهم حَدِيثُ البرَاءِ بنِ عازبٍ، عندَ أبي داودَ " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، رَفعَ يدَيْه، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ ". وقد اتَّفَقَ الحُفَّاظُ علَى أنَّ قولَه: ثم لَمْ يُعِدْ. مُدرجةٌ مِنْ يزيدَ بْنِ أبي زيادٍ أحدِ رواةِ الْحَدِيثِ. واحتجُّوا أيضاً بما رُوِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عندَ أحمدَ، وأبي داودَ، والترمذيِّ " لاَصَلِّيَنَّ لَكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصَلَّى فلم يَرفعْ يَديْهِ إلا مرَّةً واحدةً " حَسَّنهُ التِّرمذيُّ، وصحَّحه ابنُ حزمٍ. ولكنَّه لم يَثبتْ عندَ ابنِ المُباركِ، وعَدَّه ابنُ أبي حاتمٍ خَطأً، وصرَّحَ أبو داودَ بأنَّه ليس بصحيحٍ بهذا اللفظِ.

فتلَخَّص مِنْ هذا استحبابُ رفعِ اليديْنِ في المواضعِ الأربعةِ. وهي:
1ـ عندَ تكبيرةِ الإحرامِ
2ـ وعندَ الرُّكُوعِ
3ـ وبعدَ الرَّفعِ منه
4ـ وبعدَ القيامِ مِنَ التشهدِ الأَوَّلِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ استحبابُ رفعِ اليديْنِ عندَ تكبيرةِ الإحرامِ بإجماعِ الْعُلَمَاءِ وعندَ الرُّكُوعِ وعندَ الرفعِ مِنْهُ عندَ الْجُمْهُورِ.
2ـ أنْ يكونَ الرَّفعُ إلَى مقابلِ المَنكِبينِ.
3ـ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يفعلْ عندَ الرفعِ في السُّجُودِ.
4ـ حِكَمُ اللَّهِ في ذلك كثيرةٌ، وأجمعَ الْعُلَمَاءُ علَى أنَّه عِبادةٌ لليدَينِ.
وتلمَّسوا حِكَماً أخرَى، فمنهم مَنْ قَالَ: زينةٌ للصَّلاَةِ، ومنهم مَنْ قَالَ: رَفعٌ لحِجابِ الغفلةِ بينَ العبدِ وربِّه. وقالوا بتحريكِ القلبِ بحركةِ الجوارحِ، وقالَ الشَّافعيُّ: تَعظيمُ اللَّهِ واتِّباعُ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا مُنافاةَ بينَ هذهِ الأقوالِ وغيرِهَا. فلِلَّهِ في شرائعِهِ حِكمٌ وأسرارٌ كثيرةٌ. والخضوعُ والطاعةُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ أجَلِّ الحِكَمِ والأسرارِ.

***
الحديثُ الثاني والثمانونَ
82- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:" أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِه إِلى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ " .

(82) المعنَى الإجماليُّ:
أمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبيَّه محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَسجدَ لَهُ علَى سبعةِ أعْضاءٍ، هي أشرفُ أعضاءِ البدنِ وأفْضلُهَا.
الأَوَّلُ منهَا: الجبهةُ مع الأنفِ.
والثاني والثالثُ: اليديْنِ، يُباشرُ الأرضَ منهما بُطونُهما.
والرابعُ والخامسُ: الرُّكبتانِ.
والسادسُ والسابعُ: أطْرافُ القدمَينِ، مُوجِّهاً أصابِعَهما نحوَ الْقِبْلَةِ.
وأمْرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمْرٌ لأمَّتِه، لأنَّه تشريعٌ عامٌّ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أجمعَ الْعُلَمَاءُ علَى مشروعيَّةِ السُّجُودِ علَى هذِهِ الأعضاءِ السبعةِ، واخْْتَلَفُوا في الواجبِ منهَا. والذي يدلُّ عَلَيْهِ هذا الْحَدِيثُ الصحيحُ أنَّ السُّجُودَ واجبٌ عليهَا كلِّهَا، وهو المشهورُ مِنْ مذهبِ الإمامِ أحمدَ رحِمَه اللَّهُ تَعَالَى.
ويرَى بعضُ الْعُلَمَاءِ أنَّ الواجبَ الجَبهةُ، والباقي مُستحبٌّ. ويرَى أبو حنيفةَ، أنَّ الأنفَ يُجْزِىءُ عَنِ الجبهةِ، والصحيحُ القولُ الأَوَّلُ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ وجوبُ السُّجُودِ علَى هذِهِ الأعضاءِ السبعةِ جَميعِهَا وهو مذْهَبُ الإمامِ أحمدَ، والوجوبُ مأخوذٌ مِنَ الأمرِ. وفي السُّجُودِ علَى هذِهِ الأعضاءِ أداءٌ لوجوبِ السُّجُودِ وتعظيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وإظهارٌ للذُلِّ والمَسكنةِ بينَ يديهِ.
2ـ أنَّ الأنفَ تابِعٌ للجَبهةِ. وهو مُتمِّمٌ للسجودِ، وعليهِ فلا تَكفي بِدونِه.


فائدتانِ:
الأولَى: أنَّه لا بأسَ بالسُّجُودِ علَى حائلٍ سوَى أعضاءِ السُّجُودِ، فإنَّه يَحرُمُ أنْ يَضعَ جَبْهتَه علَى يَديْهِ أثناءَ ذلك؛ لأنَّ يَديْهِ مِنَ الأعضاءِ المُتَّصِلةِ بالسُّجُودِ.
ويُكرَهُ السُّجُودُ علَى ما اتَّصلَ بِهِ مِنْ ثوبٍ وعِمامةٍ إلا مع حاجةٍ، كالحَرِّ، والبرْدِ، والشَّوكِ، وخشونةِ الأرضِ، فلا يُكرهُ حينذاك. ولا يُكرهُ السُّجُودُ أيضاً علَى حائلٍ غيرِ مُتَّصِلٍ بِهِ، كَسجَّادةٍ نَحوِهَا.
الثانيةُ: أنْ يضعَ أعضاءَ سُجودِه بالترتيبِ الذي كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفعلُه.
وهو أنْ يَضعَ رُكبتَيْه، ثم يَديهِ، ثم جَبهتَه مع أنفِهِ، ولا يَبركُ كما يَبركُ البعيرُ، بحيث يُقدِّمُ يديْهِ قبلَ رُكبتيهِ، فقد نهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هذا.

***
الحديثُ الثالثُ والثمانونَ
83- عن أبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إلى الصَّلاَةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثمَّ يَقُولُ:" سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثمَّ يَقُولُ - وَهُوَ قَائِمٌ -: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ "، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَسْجُدُ، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلاَتِهِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا. وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ.

الحديثُ الرابعُ والثمانونَ
84- عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ قالَ:" صلَّيتُ أنا وعِمرانُ بنُ حُصينٍ خَلْفَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ. فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ، فقالَ: قد ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ: صَلَّى بِنَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ " .

(83-84) المعنَى الإجماليُّ:
في هذينِ الحَدِيثينِ الشَّريفين بيانُ شعارِ الصَّلاَةِ، وهو إثباتُ الكبرياءِ لِلَّهِ سبحانه وتَعَالَى، والعظمةُ. فما جُعِل هذا شِعارَهَا وَسَمْتَهَا، إلا لأنَّهَا شُرِعَتْ لتعظيمِ اللَّهِ وتَمجيدِه. فحين يَدخلُ فيهَا، يُكَبِّرُ تكبيرةَ الإحرامِ، وهو واقفٌ مُعتدِلُ القامةِ. وبعدَ أنْ يَفرغَ مِنَ القراءةِ ويَهوي للرُّكوعِ يُكبِّرُ. فإذا رَفَع مِنَ الرُّكُوعِ، وقالَ:" سَمِع اللَّهُ لمَن حَمِدَه " واسْتَتَمَّ قائِماً، حَمِد اللَّهَ وأثنَى عَلَيْهِ، حيث عَادَ إلَى أَفْضَلِ الهيئاتِ، وهي القيامُ، ثم يُكبِّرُ في هُويِّهِ إلَى السُّجُودِ، ثم يُكبِّرُ حين يرفعُ رأسَهُ مِنَ السُّجُودِ، ثم يفعلُ ذلك في صَلاَتِهِ كلِّهَا، حتَّى يفرغَ منهَا، وإذا قام مِنَ التشهدِ الأَوَّلِ في الصَّلاَةِ ذاتِ التشهديْنِ، كبَّر في حالِ قيامِهِ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أجمع الْعُلَمَاءُ علَى وجوبِ تكبيرةِ الإحرامِ، للنَّصِّ عليهَا في حَدِيثِ المُسيءِ في صَلاَتِهِ. واخْْتَلَفُوا فيما عداهَا مِنَ التكبيراتِ.
فذهبَ أكثرُ الفقهاءِ، إلَى عدمِ وجوبِهَا؛ لأنَّ الواجبَ عندَهم مِنْ أعمالِ الصَّلاَةِ ما ذُكِر في حَدِيثِ المسيءِ في صَلاَتِهِ، وهذهِ التكبيراتُ لم تُذكرْ فِيهِ. قَالَ في فتحِ البارِي: الْجُمْهُورُ علَى نَدْبيَّةِ ما عدا تكبيرةَ الإحرامِ.
فذهبَ الإمامُ أَحمدُ، وداودُ الظاهرِيُّ، إلَى وجوبِ تكبيراتِ الانتقالِ، مُسْتَدِلِّينَ بإدامةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَا وقولِه:" صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "؛
ولِما روَى أبو داودَ عَنْ عَلِيِّ بنِ يحيَى بنِ خلاَّدٍ عَنْ عمِّهِ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لاَ تَتِمُّ الصَّلاَةُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حتَّى يَتَوَضَّأَ " فذكرَ الْحَدِيثَ، وفيهِ ذِكرُ التكبيراتِ وهو نَصٌّ فيهَا.
وأجابُوا عَنْ حَدِيثِ المُسيءِ، بأنه أتَى في طريقِ أبي داودَ، والترمذيِّ، والنَّسَائِيِّ، أنَّه قَالَ: للمُسيءِ:" ثم يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثم يَرْكَعُ " وذكرَ بقيَّةَ التكبيراتِ.
واخْْتَلَفُوا في جَمْعِ الْمُصَلِّي بينَ التَّسميعِ وهو قولُه: سَمِع اللَّهُ لمَن حَمِده. والتحميدِ وهو قولُه: رَبَّنا ولك الحمدُ.
فذهبَ إلَى وجوبِهِ علَى كُلِّ مُصلٍّ، مِنْ إمامٍ، ومأمومٍ، ومنفردٍ، طائفةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
مِنَ الصَّحَابَةِ: أبو برْزةَ، ومِنَ التابِعينَ: محمدُ بنُ سِيرينَ، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ، ومِنَ المُحدِّثينَ: إسحاقُ، وأبو داودَ، ومِن أئمَّةِ المذاهبِ: مالكٌ، والشَّافعيُّ، وداودُ.
وحُجَّتُهم حَدِيثُ البابِ، وما أخرَجَه الدارقطنيُّ عَنْ بُريدةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا بُرَيْدَةُ، إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ…إلخ ".
واحتَجُّوا أيضاً بما نُقِل مِنَ الإجماعِ علَى وجوبِهِ، علَى الْمُنْفَردِ. وأُلحقَ بِهِ المأمومُ؛ لأنَّ ما ثَبتَ في حقِّ مصلٍّ، ثبتَ في حقِّ مصلٍّ آخرَ بلا فَرْقٍ.
وذهبَ إلَى عدمِ وجوبِ الجمعِ بينَ التسميعِ والتحميدِ علَى المأمومِ جماعةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: أبو هُرَيْرَةَ، وابْنُ مَسْعُودٍ، ومِنَ التَّابعينَ: الشَّعبيُّ، ومِنَ المُحدِّثين: سُفيانُ الثوريُّ.
ومن أئمَّةِ المذاهبِ: أبو حنيفةَ، وصَاحِباه، والإمامُ أحمدُ، والأوزاعيُّ، وهو مَرويٌّ عَنْ مالكٍ أيضاً. واحتجَّ هؤلاء الفقهاءُ، علَى عدمِ الوجوبِ، بحَدِيث أبي هُرَيْرَةَ عندَ الشيخَينِ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " وفيهِ " وإذا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ".
وأجابُوا عَنْ أدلَّةِ أصحابِ المذاهبِ الأَوَّلِ بما يأتي:
أمَّا حَدِيثُ البابِ، فهو في صفةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو إمامٌ أو منفردٌ، ومَحلُّ النِّزاعِ في المأمومِ.
وأما حَدِيثُ بُريدةَ، فضعيفُ الإسنادِ، ولا يُحتجُّ بِهِ.
وأما إلحاقُ المأمومِ بالإمامِ والْمُنْفَردِ، فلا قياسَ مع النَّصِّ، واللَّهُ أعلمُ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ مشروعيَّةُ تكبيرةِ الإحرامِ، وأنْ تَكُونَ في حالِ القيامِ.
2ـ مشروعيَّةُ تكبيرةِ الرُّكُوعِ، وأنْ يكونَ في حالِ الانتقالِ مِنَ القيامِ إلَى الرُّكُوعِ.
3ـ التسميعُ للإمامِ والْمُنْفَردِ، ويكونُ في حالِ الرفعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
4ـ التحميدُ لكلٍّ مِنَ الإمامِ، والمأمومِ، والْمُنْفَردِ، في حالِ القيامِ.
5ـ الطمأنينةُ بعدَ الرفعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
6ـ التكبيرُ في حالِ الْهُوِيِّ مِنَ القيامِ إلَى السُّجُودِ.
7ـ التكبيرُ حالَ الرفعِ مِنَ السُّجُودِ إلَى الجلوسِ بينَ السجدتَينِ.
8ـ أنْ يفعلَ ما تقدَّمَ ـ عَدا تكبيرةِ الإحرامِ ـ في جميعِ الركعاتِ.
9ـ التكبيرُ حِيالَ القيامِ مِنَ التشهدِ الأَوَّلِ إلَى القيامِ في الصَّلاَةِ ذاتِ التشهدَينِ.
10ـ المفهومُ مِنْ لفظِ (حين) أنَّ التكبيرَ يُقارِنُ الانتقالَ، فلا يَتقدَّمه، ولا يتأخَّرُ عَنْهُ، وهذا هو المشروعُ. قَالَ ابْنُ دقيقِ العيدِ: وهو الذي استمَرَّ عَلَيْهِ عملُ الناسِ، وأئمةُ فقهاءِ الأمصارِ.
11ـ ذَكَرَ ناصرُ الدينِ بنُ المُنيرِ أنَّ تجديدَ التكبيرِ في كُلِّ ركعةٍ وَحركةٍ بِمثابةِ تجديدِ النيَّةِ.

فائدةٌ:
وَردَ في بعضِ رواياتِ الْحَدِيثِ:" رَبَّنا لك الحمدُ "، ووَرَدَ في البعضِ الآخرِ:" رَبَّنَا ولك الحمدُ " بإثباتِ الواوِ، وهو أكثرُ الرواياتِ، وهي أرجحُ وأوْلَى؛ لأنَّ الواوَ تأتي بمعنًى زائدٍ مقصودٍ.

***
الحديثُ الخامسُ والثمانونَ
85- عن البراءِ بنِ عازبٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: رَمَقْتُ الصَّلاَةَ مَعَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ ركوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ والانْصِرافِ: قَرِيباً مِنَ السَّوَاءِ.
وفي روايةِ البخاريِّ، مَا خَلاَ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ: قَرِيباً مِنَ السّوَاءِ .

(85) المعنَى الإجماليُّ:
يصفُ البرَاءُ بنُ عازبٍ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيذكرُ أنَّهَا مُتقاربةٌ مُتناسِبةٌ.
فإنَّ قِيامَهُ للقراءةِ، وجُلوسَهُ للتشَهُّدِ، يكونانِ مُناسبين للرُّكوعِ، والاعتدالِ والسُّجُودِ فلا يُطوِّلُ القيامَ مثلاً، ويُخفِّفُ الرُّكُوعَ، أو يُطيلُ السُّجُودَ، ثم يُخفِّفُ القيامَ، أو الجلوسَ بل كلُّ ركنٍ يَجعلُه مُناسِباً للرُّكنِ الآخَرِ. وليس معناه: أنَّ القيامَ والجلوسَ للتشَهُّدِ، بقدرِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ. وإنَّما معناه أنَّه لا يُخفِّفُ واحداً ويُثقِّلُ الآخرَ. وإلا فمِنَ المعلومِ أنَّ القيامَ والجلوسَ، أطولُ مِنْ غيرِهما، كما يدلُّ عَلَيْهِ زيادةُ البُخاريِّ في الْحَدِيثِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ الأَفْضَلُ أنْ يكونَ الرُّكُوعُ والاعتدالُ مِنْهُ، والسُّجُودُ والاعتدالُ مِنْهُ، مُتساويةَ المقاديرِ، فلا يُطيلُ الْمُصَلِّي بعضَهَا علَى بعضٍ.
2ـ أنْ يكونَ القيامُ للقراءةِ والجلوسُ للتشَهُّدِ الأخيرِ أطولَ مِنْ غيرِهما.
3- أنْ تَكُونَ الصَّلاَةُ في جُملتِهَا مُتناسبةً، فيكونُ طولُ القراءةِ مُناسباً مثلاً للركُوعِ والسُّجُودِ.
4- ثبوتُ الطمأنينةِ في الاعتدالِ مِنَ الركُوعِ والسُّجُودِ، خلافاً للمتلاعِبينَ في صَلاَتِهم ممَّن لا يُقيمونَ أصَلاَبَهم في هذينِ الرُّكنينِ.
5ـ زعَمَ بعضُهم أنَّ الرَّفعَ مِنَ الركُوعِ ركْنٌ صغيرٌ؛ لأنَّه لم يُسنَّ في تكريرِ التسبيحاتِ كالركُوعِ والسُّجُودِ، وَلَكِنْ هذا قياسٌ فاسدٌ؛ لأنَّه قياسٌ في مُقابلةِ النَّصِّ فإنَّ الذِّكرَ المشروعَ في الاعتدالِ مِنَ الركُوعِ أطولُ مِنَ الذِّكرِ المشروعِ في الركُوعِ، وقد أخرجَ ذلك مُسْلِمٌ في حَدِيثِ ثلاثةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

فائدةٌ:
لِكونِ المعهودِ مِنْ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تطويلُ قيامِ القراءةِ وقعودُ التشَهُّدِ علَى غيرِهما مِنْ أفعالِ الصَّلاَةِ، فقد اختلفَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ في معنَى هذهِ المُناسبةِ بينَ أفعالِ صَلاَتِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسلامُ، بما فيهَا القيامُ.
فالنوويُّ جعلهَا صِفةً عارِضةً وليست دائِمةً، وابنُ دقيقِ العيدِ قَالَ: يقتَضِي هذا تخفيفَ ما العادةُ فِيهِ التطويلُ، أو تطويلَ ما العادةُ فِيهِ التخفيفُ.
وهَداني اللَّهُ تَعَالَى إلَى المعنَى المذكورِ في المعنَى الإجماليِّ مِنْ أنَّه إذا طَوَّل القراءةَ طَوَّل غيرَهَا مِنَ الأركانِ، فيكونُ قريباً مِنَ السَّواءِ تطويلاً وتَخفيفاً.
ومثلُ القراءةِ القعودُ للتشَهُّدِ. ثم بعدَ كتابتِهِ، وَجَدْتُهُ رَأْيَ ابنِ القيِّمِ في كتابِ " الصَّلاَةِ وتهذيبِ السُّننِ " وهذا هو الحقُّ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

***
الحديثُ السادسُ والثمانونَ
86- عن ثابتٍ البُنانيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" إِنِّي لاَ آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَما كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يُصَلِّي بنَا.
قال ثابتٌ: فَكانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئاً لاَ أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِماً، حتى يقولَ الْقائِلُ: قَدْ نَسِيَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ، حَتَّى يَقُولَ القائلُ: قَدْ نَسِيَ " .

(86) المعنَى الإجماليُّ:
يَقُولُ أنسٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، إني سَأجتهدُ فلا أصِرُّ أنْ أصلِّيَ بكم كما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بنا، لِتقتدُوا بِهِ، فَتصلُّوا مِثلَه.
قَالَ الراوي ثابتٌ البُنانيُّ: فكان أنسٌ يَصنعُ شيئاً مِنْ تمامِ الصَّلاَةِ وحُسنِهَا، لا أراكم تَصنعونَ مِثلَه. كانَ يُطيلُ القيامَ بعدَ الركُوعِ، والجلوسَ بعدَ السجودِ. فكان إذا رَفعَ رأسَهُ مِنَ الركُوعِ انتصَبَ قائِماً حَتَّى يَقُولَ القائِلُ ـ مِنْ طولِ قيامِه ـ قد نَسِيَ أنَّه في القيامِ الذي بينَ الركُوعِ والسُّجُودِ. وإذا رفَعَ رَأسَه مِنَ السجدةِ مَكثَ حَتَّى يَقُولَ القائلُ ـ مِنْ طولِ جلوسِه ـ قد نَسِيَ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
فِيهِ دليلٌ علَى مشروعيَّةِ تطويلِ القيامِ بعدَ الركُوعِ، وتطويلِ الجلوسِ بعدَ السجودِ، وأنه فِعلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

***
الحديثُ السابعُ والثمانونَ
87- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً، ولاَ أَتَمَّ صَلاَةً، مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ " .

(87) المعنَى الإجماليُّ:
يَنفي أنسُ بنُ مالكٍ أنْ يكونَ صَلَّى خلفَ أيِّ إمامٍ مِنَ الإئِمَّةِ إلا وكانتْ صَلاَتُه خلفَ الإمامِ الأعظمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخَفَّ، بحيث لا يَشقُّ علَى المَأْمُومِينَ، فيخرجُون منهَا وهم فيهَا راغِبونَ. ولا أتَمَّ مِنْ صَلاَتِهِ، فقد كانَ يأتي بهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كامِلةً، فلا يُخِلُّ بهَا، بل يُكْمِلُهَا بالمحافظةِ علَى واجباتِهَا ومُستحبَّاتِهَا، وهذا مِنْ آثارِ بَركَتِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ أنْ يأتِيَ الإمامُ بالصَّلاَةِ خفيفةً، حتَّى لا يَشقَّ علَى المُصلِّينَ، وتَامَّةً حتَّى لا يَنقُصَ مِنْ ثوابِهَا شيءٌ. فإتمامُهَا يكونُ بالإتيانِ بواجباتِهَا ومستحبَّاتِهَا مِنْ غيرِ تطويلٍ، وتَخفيفُهَا يكونُ بالاقتصارِ علَى واجباتِهَا وبعضِ مُستحبَّاتِهَا.
2ـ أنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ صَلاَةٍ، فَلْيَحْرِصِ الْمُصَلِّي علَى أنْ يجعلَ صَلاَتَه مثلَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسلامُ، لِيحظَى بالاقتداءِ، ويفوزَ بعظيمِ الأجرِ.
3ـ فِيهِ جوازُ إمامةِ المفضولِ للفاضلِ، علَى تقديرِ أنَّ أنساً رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ ممَنْ يُصَلِّي بِهِ غيرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإمامُ المسجدِ مُقدمٌ علَى غيرِهِ وإنْ كانَ وراءَه أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لأنَّه هو الإمامُ الرَّاتبُ، وذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ أنَّ ذا السُّلطانِ كالإمامِ الرَّاتبِ.

***
الحديثُ الثامنُ والثمانونَ
88- عن أبي قِلابةَ عبدِ اللَّهِ بنِ زيدٍ الْجَرْميِّ البصريِّ قالَ:" جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فقالَ: إِنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأَبِي قِلاَبَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قالَ: مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هذَا، وكانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى قَبْلَ أنْ ينهضَ " .
أرادَ بشيخِهم: أبا يَزِيدَ عمرَو بْنَ سلمةَ الجَرْميَّ.

(88) المعنَى الإجماليُّ:
يَقُولُ: أبو قِلابةَ: جَاءنا مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ أحدُ الصَّحَابَةِ في مَسجدِنا، فقالَ، إني جئتُ إليكم لأصَلِّي بكم صَلاَةً لم أقْصدِ التَّعبُّدَ بهَا، وإنَّما قَصدتُ تَعليمَكم صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطريقٍ عَمليَّةٍ، ليكونَ التعليمُ بصورةِ الفعلِ أقربَ وأبقَى في أذهانِكمِ.
فقالَ الرَّاوي عَنْ أبيِ قِلابةَ: كيفَ كانَ مالكُ بنُ الحُويرثِ الذي عَلَّمكم صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي؟
فقالَ: مِثلَ صَلاَةِ شَيخِنا أبي يزيدَ عَمْرِو بنِ سلمةَ الجَرميِّ، وكان يجلسُ جِلسةً خفيفةً إذا رفَعَ رأسَهُ مِنَ السُّجُودِ للقيامِ، قبلَ أنْ يَنهضَ قائِماً.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
الجِلسةُ المُشارُ إليهَا في هذا الْحَدِيثِ هي ما تُسمَّى عندَ الْعُلَمَاءِ بـ (جِلْسةِ الاستراحَةِ).
ولا خلافَ عندَهم في إباحتِهَا، وإنَّما الخلافُ في استحبابِهَا.
فذهبَ إلَى استحبابِهَا، الشَّافعيُّ في المشهورِ مِنْ مذهبِهِ، وأحمدُ في إحدَى الروايتينِ عَنْهُ، واختارهَا مِنْ أصحابِهِ الخَلاَّلُ، لهذا الْحَدِيثِ الصحيحِ.
وذهبَ إلَى عدمِ استحبابِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وعليٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ، وابنُ العباسِ. ومِنَ المُحدِّثين: الثَّوريُّ، وإسحاقُ، ومِنَ الإئِمَّةِ: أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وهو المشهورُ مِنْ مذهبِ أحمدَ وقالَ أكثرُ الأحاديثِ علَى هذا يعنِي: تَركَهَا.
قَالَ التِّرمذيُّ: وعليهِ العملُ عندَ أهلِ الْعِلْمِ، وقالَ أبو الزِّنادِ: تلك السُّنةُ.
ومال بعضُ الْعُلَمَاءِ إلَى فِعلِهَا عندَ الحاجةِ إليهَا، مِنْ كِبرٍ أو ضَعفٍ، جمعاً بينَ الأدلَّةِ.
قَالَ ابْنُ قُدامةَ في " المُغني ": وهذا في جَمعٍ بينَ الأخبارِ، وتَوسُّطٍ بينَ القولَينِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ استحبابُ جِلْسةِ الاستراحةِ، وتقدَّمَ أنَّ الصحيحَ استحبابُهَا للحاجَةِ.
2ـ أنَّ موضِعَهَا عندَ النهوضِ مِنَ السُّجُودِ إلَى القيامِ.
3ـ أنَّ القصدَ منهَا الاستراحةُ لبُعدِ السجودِ مِنَ القيامِ، لذا لم يُشْرَعْ لهَا تكبيرٌ ولا ذِكرٌ.
4ـ جوازُ التعليمِ بالفِعلِ، وأنه ليس مِنَ التَّشريكِ وفي العملِ فإنَّ الأصلَ الباعِثَ علَى هذِهِ الصَّلاَةِ هو إرادةُ التعليمِ، وهو قُربةٌ كما أنَّ الصَّلاَةَ قُربةٌ.

***
الحديثُ التاسعُ والثمانونَ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ مالكٍ - ابنِ بُحينةَ - رضيَ اللَّهُ عنهُ " أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ كانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حتى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ " .

(89) المعنَى الإجماليُّ:
كانت صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلاَةَ رغبةٍ ونشاطٍ، وكان يُعطي كلَّ عُضوٍ حَقَّه مِنَ العبادةِ. ولهذا كانَ إذا سَجدَ فرَّجَ بينَ يديهِ، ومِن شدَّةِ التفريجِ بينهما، يَظهرُ بياضُ إِبطيْه. كلُّ ذلك عنوانُ النشاطِ في الصَّلاَةِ، والرَّغبةِ في العبادةِ، وتَباعُداً عَنْ هيئةِ الكَسلانِ، الذي يَضمُّ بعضَ أعضائِه إلَى بعضٍ، فَيزيلُ عَنْ بعضِهَا عناءَ العبادةِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ فِيهِ دليلٌ علَى استحبابِ هذهِ الهيئةِ في السُّجُودِ، وهي مُباعدةُ عُضديْه عَنْ جنبيْهِ، وقد تَخصَّص ذلك في السُّجُودِ بما أخرجه مُسْلِمٌ في حَدِيثِ البرَاءِ يرْفعُه وهو " إذا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ وهو في حَدِيثِ البابِ مُطلقٌ، ولكنَّه في هذا الْحَدِيثِ مُقيَّدٌ، فَيُحملُ الْمُطْلَقُ علَى المقيَّدِ، ويَختصُّ التفريجُ بحالِ السُّجُودِ.
2ـ في ذلك حِكَمٌ كثيرةٌ، وفوائدُ جسيمةٌ.
منهَا: إظهارُ النشاطِ والرغبةِ في الصَّلاَةِ.
ومنهَا: أنَّه إذا اعتَمدَ علَى كُلِّ أعضاءِ السُّجُودِ، أخذَ كلُّ عضوٍ حَقَّه مِنَ العبادةِ.

فائدةٌ:
خَصَّ بعضُ الفقهاءِ، ومنهم الْحَنَابِلةُ، هذا الحُكمَ بالرَّجلِ دونَ الْمَرْأةِ؛ لأنَّه يُطلبُ منهَا التَّجَمُّعُ، والتَّصوُّنُ؛ ولِما روَى أبو داودَ في مَراسيلِهِ عَنْ يزيدَ بْنِ حبيبٍ:" أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ علَى امرأتيْنِ تُصلِّيان، فقالَ: إِذَا سَجَدْتُمَا، فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى بَعْضٍ، فإنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ في ذلك كَالرَّجُلِ ".

***
الحديثُ التسعونَ
90- عن أبي مَسْلَمَةَ سعيدٍ بنِ يزيدَ، قالَ:" سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ: أَكانَ النَبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ ".

(90) المعنَى الإجماليُّ:
سألَ سعيدٌ بْنُ يَزِيدَ أنسَ بنَ مالكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكان يُصَلِّي في نَعْليهِ ليكونَ لَهُ قدوةٌ فِيهِ؟ فأجابَهُ أنسٌ: نعم، كانَ يُصَلِّي في نَعليْهِ، وأنَّ ذلك مِنْ سُنَّتِهِ المُطهَّرةِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ استحبابُ الصَّلاَةِ في النعلينِ، حيث كانَ مِنْ فعلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2ـ جوازُ دخولِ المسجدِ بهما، بعدَ تَنظيفِهما مِنَ الأقذارِ والأنجاسِ.
3ـ أنَّ غلبةَ الظنِّ في نجاستِهما لا تُخرجُهما عَنْ أصلِ الطهارةِ فيهما.

فائدةٌ:
الصَّلاَةُ في النعالِ ودخولُ المسجدِ فيهما، أصْبحتْ مسألةً مُشكلةً.
فسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحةٌ بجوازِ ذلك بل باستحبابِه، وأنه مِنَ السُّنةِ التيِ ينبغي المحافظةُ عليهَا.
فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه أبو داودَ عَنْ شدَّادِ بْنِ أوسٍ:" خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإنَّهُمْ لاَ يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ وَلاَ خِفَافِهِمْ ".
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أخرجَه أبو داودَ أيضاً، عَنْ أبيِ سعيدٍ الخُدْرِيِّ:" إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَراً أَو أذًى فَلْيَمْسَحْهُ ولْيُصَلِّ فِيهِمَا " إلَى غيرِ ذلك مِنَ النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ، في مشروعيَّةِ الصَّلاَةِ فيهما بعدَ تَنظيفِهما مِنَ الأنجاسِ والأقذارِ.
أمَّا العامَّةُ وبعضُ المُتعصِّبينَ مِنْ طلبةِ الْعِلْمِ فيجادلُونك في ذلك، ويَرونَ أنَّ إحياءَ هذهِ السُّنةِ مِنَ الكبائرِ، التي لا يُسكتُ عليهَا. وإذا أوْرَدتُ عليهم هذهِ النصوصَ قالوا: هذا في وَقْتٍ دونَ وَقْتٍ، وزمنٍ دونَ زمنٍ. كأنَّ شريعةَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتَى بَعْدَهَا مَنْ نَسخهَا وَبدَّلهَا. وما دَروا أنَّهَا شريعةُ اللَّهِ إلَى أنْ يرثَ اللَّهُ الأرضَ ومَن عليهَا.
والمُناسبُ: أنَّ مَنْ أَرَادَ اتِّباعَ السُّنةِ في ذلك وفي غيرهِ، ممَّا تَركَه أو فَعلَه، لا يَمسُّ جوهرَ الإسلامِ أنْ يَنظرَ، فإنْ كانَ فِعلُه أو ترْكُه يُسبِّبُ فِتنةً وشَراًّ أَكبرَ مِنْ مَصلحتِهِ فَليراعِ المَصالِحَ، فإنَّ الشرعَ يكونُ حيث تُوجدُ المصلحةُ الخالصةُ، أو الراجحةُ علَى المفسدةِ.

***
الحديثُ الحادي والتسعونَ
91- عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ رضيَ اللَّهُ عنهُ:" أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لأبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ بنِ عبدِ شمسٍ، فإذا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا " .

(91) المعنَى الإجماليُّ:
كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى جانبٍ كبيرٍ مِنَ العطفِ واللُّطفِ والرحمةِ والرأفةِ فكان يَتودَّدُ إلَى الصغارِ والكبارِ، والأغنياءِ والفقراءِ. ولا أدَلَّ علَى أخلاقِهِ الكريمةِ، مِنْ حَمْلِهِ إحدَى حَفيداتِه وهو في الصَّلاَةِ، حيث يَجعلُهَا علَى عاتقِهِ إذا قامَ، فإذا ركعَ أو سجدَ وَضعهَا في الأرضِ، ففي هذا السَّمَاحِ الكريمِ تشريعٌ وتسهيلٌ للأمَّةِ المُحمَّديَّةِ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أوردَ ابنُ دقيقِ العيدِ تأويلاتٍ كثيرةً بعيدةً لهذا الْحَدِيثِ، في شرحِ هذا الكتابِ.
منهَا دعوَى النسخِ، ودعوَى الخصوصيَّةِ، ودعوَى الضرورةِ، وغيرُ ذلكَ مما هو أسَقطُ تأويلاً وأضعفُ قِيلاً.
وقالَ القُرطبيُّ: وقد اختلفَ الْعُلَمَاءُ في تأويلِ هذا الْحَدِيثِ، والذي أحَوجَهم إلَى ذلك أنَّه عملٌ كثيرٌ.
 
ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1ـ جوازُ مثلِ هذهِ الحركةِ في صَلاَةِ الفريضةِ والنَّافِلَةِ، مِنَ المأمومِ والإمامِ والْمُنْفَردِ ولو بِلاَ ضرورةٍ لهَا. وهذا قولُ مُحقِّقي الْعُلَمَاءِ.
2ـ جوازُ ملامسةِ وحملِ مَنْ تُظنُّ نَجاسَتُه، تغليباً للأصلِ ـ وهو الطهارةُ ـ علَى غلبةِ الظنِّ. وهو ـ هنا ـ نجاسةُ ثيابِ الأطفالِ وأبدانِهم.
3ـ تواضُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولُطفُ خُلُقِه ورَحمتُه.

فائدةٌ:
قَسَّم بعضُ الْعُلَمَاءِ الحركةَ في الصَّلاَةِ إلَى أربعةِ أقسامٍ حَسَبَ الاستقراءِ والتَّتبُّعِ مِنْ نصوصِ الشَّارِعِ.
القسمُ الأَوَّلُ: يُحرِّمُ ويُبطلُ الصَّلاَةَ وهو الكثيرُ المتوالي لغيرِ ضرورةٍ ولغيرِ مصلحةِ الصَّلاَةِ.
القسمُ الثاني: يُكرهُ في الصَّلاَةِ ولا يُبطلُهَا: وهو اليسيرُ لغيرِ حاجةٍ، مما ليس لمصلحةِ الصَّلاَةِ كالعبثِ اليسيرِ بالثيابِ أو البدنِ، ونحوِ ذلك؛ لأنَّه مُنافٍ للخشوعِ المطلوبِ، ولا حاجةَ تَدعو إِلَيْهِ.
القسمُ الثالثُ: الحركةُ المُباحةُ وهي اليسِيرةُ للحاجَةِ: ولعلَّ هذا القِسمَ، هو ما كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفعلُه مِنْ حَمْلِ هذهِ الطِّفلةِ، وطلوعِه علَى المنبرِ، ونزولِه مِنْهُ حالَ الصَّلاَةِ، وفَتحِه البابَ لعَائِشَةَ، ونحوِ ذلك مما يفعلُهُ للحاجَةِ ولبيانِ الجوازِ.
القسمُ الرابعُ: الحركةُ المشروعةُ وهي التيُ يَتعلَّقُ بهَا مصلحةُ الصَّلاَةِ، كالتقَدُّمِ للمكانِ الفاضلِ، والدُّنوِّ لسدِّ خَلَلِِ الصُّفُوفِ.
أو تكونُ الحركةُ لفعلٍ محمودٍ مأمورٍ بِهِ، كتقدُّمِ المُصلِّينَ وتأخُّرِهم، في صَلاَةِ الخوفِ أو الضرورةِ كإنقاذٍ مِنْ هَلَكةٍ.

***
الحديثُ الثاني والتسعونَ
92- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ:" اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسِطُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ " .

(92) المعنَى الإجماليُّ:
أمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاعتدالِ في السُّجُودِ، وذلك بأنْ يكونَ الْمُصَلِّي علَى هيئةٍ حَسنةٍ في السُّجُودِ، حيث يَجعلُ كَفَّيهِ علَى الأرضِ، ويرفعُ ذِراعيْه ويُجافِيهما عَنْ جنبيْهِ؛ لأنَّ هذهِ الحالَ، عنوانُ النَّشاطِ، والرغبةِ المَطلوبَينِ في الصَّلاَةِ؛ ولأنَّ هذهِ الهيئةَ الحسنةَ تُمكِّنُ أعضاءَ السُّجُودِ كلَّهَا مِنَ الأخذِ بحظِّهَا مِنَ العبادةِ.
ونهَى عَنْ بسطِ الذِّراعينِ في السُّجُودِ، لأنَّه دليلُ الكسلِ والمَللِ، وفيهِ تشبيهُ أَفْضَلِ حالاتِ العِبادةِ بحالِ أخسِّ الحيواناتِ، وأقْذَرِهَا، وهو تَشبيهٌ بما لا يَليقُ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1 - مشروعيَّةُ الاعتدالِ في السُّجُودِ؛ علَى الهيئةِ المشروعةِ.
2ـ النَّهْيُ عَنْ بسطِ الذراعَينِ في السُّجُودِ؛ لأنَّه دليلُ الكسلِ، وفيهِ تشبيهٌ بجلوسِ الكَلْبِ. فإنَّ التشبيهَ بالأشياءِ الخَسيسةِ يدعو إلَى تركِهِ في الصَّلاَةِ.
3ـ يؤخَذُ مِنْهُ أيضاً: كراهةُ مشابهةِ الحيواناتِ، خصوصاً في حالِ أداءِ العباداتِ.

فائدةٌ جليلةٌ:
ورَدَ الأمرُ مِنَ الشَّارِعِ بمخالَفةِ الحيواناتِ الخسيسةِ والشريفةِ في هيئاتِ الصَّلاَةِ.
فنهَى عَنِ التفاتٍ كالتفاتِ الثعلبِ، وافتراشٍ كافتراشِ السبعِ، وإقعاءٍ كإقعاءِ الكلبِ، ونقرٍ كنقرِ الغُرابِ وإشارةٍ بالأيديِ كأذنابِ الخيلِ الشُّمُسِ وبروكٍ كبروكِ الجملِ. وغيرِ ذلكَ مما نهَى عَنْهُ الشَّارِعُ مِنْ مُشابهةِ الحيواناتِ؛ لأنَّ الصَّلاَةَ مُناجاةٌ لِلَّه، فَينبَغي أنْ تَكُونَ علَى أحسنِ هيئةٍ وأَفْضَلِ صفةٍ

بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


84 - الحديثُ الأوَّلُ: عنْ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كبَّرَ في الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرأَ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبيرِ وَالْقراءَةِ: مَا تَقُولُ؟ قالَ: (( أَقُولُ: اللهُمَّ باعِدْ بيني وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشرِق وَالْمغرِبِ. اللَّهُمَّ نقِّني مِنْ خَطَايَايَ كَما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِن الدَّنَسِ. اللهُمَّ اغْسِلْني مِنْ خَطَايَايَ بِالماءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ)).

تقدَّمَ القولُ في أنَّ ((كانَ)) تُشعِرُ بكثرةِ الفِعلِ أو الْمُدَاومَةِ عليهِ. وقدْ تُستعملُ في مجرَّدِ وقوعِهِ.
وهذَا الحديثُ يدلُّ لمنْ قالَ باستحبابِ الذِّكرِ بينَ التَّكبيرِ والقراءةِ. فإنَّهُ دلَّ على استحبابِ هذا الذِّكرِ. والدَّالُّ على المقيَّدِ دالٌّ على المُطلقِ، فيُنافِي ذلكَ كراهيةَ المالكيةِ الذِّكرَ فيمَا بينَ التَّكبيرِ والقراءةِ. ولا يقتضِي استحبابَ ذكرٍ آخرَ معيَّنٍ.
وفيهِ دليلٌ لِمَنْ قالَ باستحبابِ هذِه السَّكتةِ بينَ التَّكبيرِ والقراءةِ. والمرادُ بالسَّكتَةِ ههنا: السُّكوتُ عنِ الجهرِ، لا عنْ مُطلقِ القوْلِ، أو عنْ قراءةِ القرآنِ، لاَ عن الذِّكرِ.
وقولُه: ((ما تقولُ؟ ))يُشعرُ بأنَّهُ فَهِمَ أنَّ هناكَ قولاً، فإنَّ السُّؤالَ وقعَ بقولِه: ما تقولُ؟ ولمْ يقعْ بقولِه:هل تقولُ؟ والسُّؤالُ ((بِهَلْ)) مُقدَّمٌ على السُّؤالِ ((بمَا)) ههنا. ولعلَّهُ استَدلَّ على أصلِ القولِ بحركةِ الفَمِ. كمَا وردَ في استدلالِهم على القراءةِِ في السِّرِّ باضطرابِِ لحيتهِ.
وقولُه: (( اللَّهُمَّ باعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ)). عبارةٌ: إمَّا عنْ محوهَا وتَرْكِ المُؤاخذةِ بهَا، وإمَّا عنِ المنعِ من وُقوعِهَا والعِصْمةِ منهَا وفيهِ مجازانِ :
أحدُهما: استعمالُ المباعدةِ في تَرْكِ المؤاخذةِ، أو في العصمةِ منهَا. والمُباعدةُ في الزَّمانِ أو فِي المكانِ في الأصلِ.
والثَّاني: استعمالُ المُباعدةِ في الإزالةِ الكُلِّيَّةِ. فإنَّ أصلَهَا لا يقتضِي الزَّوالَ. وليسَ المرادُ ههنا: البقاءَ مع البُعدِ، ولا ما يطابقُه مِن المجازِ. وإنما المرادُ: الإزالةُ بالكلِّيةِ. وكذلكَ التشبيهُ بالمباعدةِ بينَ المَشرقِ والمغربِ، المقصودُ منهَا: تَرْكُ المؤاخذةِ أو العصمةِ.
وقولُه: (( اللهمَّ نقِّني مِن خَطايَايَ )) إلى قولِهِ ((مِنَ الدَّنَسِ)) مجازٌ كمَا تقدَّمَ - عنْ زوالِ الذنوبِ وأَثَرِهَا. ولمَّا كانَ ذلكَ أظهرَ في الثَّوبِ الأبيضِ من غيرِه مِن الألوانِ، وقعَ التَّشبيهُ بهِ.
وقولُه: ((اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي)) إلى آخرِه يَحْتَمِلُ أمرينِ : - بعدَ كونهِ مجازًا عمَّا ذكرناهُ
أحدُهما: أنْ يُرادَ بذلكَ التَّعبيرُ عنْ غايةِ المَحْوِ، أعْنِي بالمجموعِ فإنَّ الثَّوبَ الذِي تتكرَّرُ عليهِ التَّنْقِيَةُ بثلاثةِ أشياءَ مُنَقِّيَةٍ، يكونُ في غايةِ النَّقاءِ.
الوجهُ الثانِي: أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ من هذهِ الأشياءِ مجازًا عن صفةٍ يقعُ بهَا التكفيرُ والمحوُ. ولعلَّ ذلكَ كقولِهِ تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرةِ:286]، فكلُّ واحدةٍ من هذهِ الصفاتِ - أعنِي: العفوَ، والمغفرةَ، والرَّحمةَ - لها أثرٌ في محوِ الذَّنبِ. فعلَى هذا الوجهِ: يُنظرُ إلى الأفرادِ. ويجعلُ كلُّ فردٍ منَ أفرادِ الحقيقةِ دالاًّ على معنىَ فردٍ مجازِىٍّ. وفي الوجهِ الأوَّلِ: لا يُنظرُ إلى أفرادِ الألفاظِ، ِ، بل تُجعلُ جملةُ اللَّفظِ دالةً على غايةِ المحوِ للذنبِ.

***
85 - الحديثُ الثَّالثُ: عن عائشةَ , رضيَ اللهُ عنهَا , قالتْ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بالتَّكْبِيرِ، وَالْقِراءَةِ بِـ ( الْحَمدُ للهِ ربِّ الْعالمينَ ). وكَان إِذَا رَكَعَ لمْ يُشْخِصْ رأْسَهُ ولمْ يصَوِّبْهُ وَلَكنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وكانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوعِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يسْتَوِيَ قَائمًا، وكَانَ إذَا رفعَ رأسَهُ مِن السَّجْدِةِ: لَمْ يسْجُدْ، حتَّى يسْتَويَ قَاعدًا، وَكَانَ يَقُولُ في كلِّ ركْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وكانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْترِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ.

هذَا الحديثُ سَها المصنِّفُ في إيرادِه في هذَا الكتابِ. فإنَّهُ ممَّا انفردَ بهِ مسلمٌ عنِ البخاريِّ. فرواهُ من حديثِ الحسينِ المُعَلِّمِ عن بُديْلِ بنِ مَيسرةَ عن أبي الجَوزاءِ عَن عائشةَ رضيَ اللهُ عنهَا. وشرطُ الكتابِ: تخريجُ الشَّيخينِ للحديثِ.
قولُها: كانَ يَستفتحُ الصَّلاةَ بالتكبيرِ قد تقدَّمَ الكلامُ على لفظةِ ((كانَ)) فإنَّها قد تُستعملُ في مجرِّدِ وقوعِ الفِعلِ. وهذا الحديثُ - مع حديثِ أبي هريرةَ - قدْ يدلُّ علىَ ذلكَ. فإنهَا قد استُعْمِلَتْ في أحدِهما على غيرِ مَا استُعملتْ فِي الآخرِ. فإنَّ حديثَ أبي هريرةَ: إنِ اقتضَى المداومَةَ أو الأكثريَّةَ على السُّكوتِ وذلكَ الذِّكِرِ، وهذا الحديثُ يقتضي المداومةَ - أو الأكثريَّةَ - لافتتاحِ الصَّلاةِ بعدَ التكبيرِ بـ( الحمدُ للهِ ربِّ العالمينِ )، تعارضَا. وهذا البحثُ مبنيٌّ على أنْ يكونَ لفظُ ((القراءةِ)) مَجرورًا. فإنْ كانتْ لفظةُ ((كانَ)) لا تدلُّ إلاَّ على الكثرةِ. فلاَ تَعارُضَ. إذْ قدْ يَكثُرانِ جَميعًا. وهذهِ الأفعالُ التي تَذكُرهَا عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصَّلاةِ قدِ استدلَّ الفقهاءُ بكثيرٍ منهَا على الوُجوبِ، لا لأنَّ الفعلَ يدلُّ على الوجوبِ، بلْ لأنهمْ يرونَ أنَّ قولَهُ تعالىَ: {أقيمُوا الصَّلاَةَ} خطابٌ مُجملٌ، مبيَّنٌ بالفعلِ، والفعلُ المبيِّنُ للمُجْمَلِ المأمورِ بهِ، يدخلُ تحتَ الأمرِ. فَيَدُلُّ مجموعُ ذلكَ علَى الوجوبِ. وإذَا سلكتَ هذِه الطريقةَ وجدتَ أَفعالاً غيرَ واجبةٍ، فلا بدَّ أنْ يُحالَ ذلكَ على دليلٍ آخرَ دلَّ على عدمِ الوجوبِ.
وفي هذا الاستدلالِ بحثٌ. وهو أَنْ يُقالَ: الخطابُ المُجملُ يتبيَّنُ بأوَّلِ الأفعالِ وقوعًا. فإذا تبيَّنَ بذلكَ الفعلِ لمْ يكنْ مَا وَقَعَ بعدَهُ بيانًا، لوقوعِ البيانِ بالأوَّلِ. فيبقَى فعلاً مجرَّدًا، لا يدلُّ علَى الوجوبِ. اللهمَّ إلا أنْ يدُلَّ دليلٌ على وقوعِ ذلكَ الفعلِ المُسْتَدَلِّ بهِ بيانًا. فيتوقَّفُ الاستدلالُ بهذهِ الطريقةِ على وجودِ ذلكَ الدَّليلِ، بلْ قدْ يقومُ الدَّليلُ على خلافِه، كَرِواَيةِ مَن رأى فِعْلاً للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسبقَتْ لهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدَّةٌ يقيمُ الصَّلاةَ فيهَا. وكانَ هذَا الرَّاوِي الرَّائِي مِن أصاغِرِ الصَّحابةِ الذينَ حصَلَ تمييزُهم ورؤيَتُهم بعدَ إقامةِ الصَّلاةِ مدَّةً. فهذَا مقطوعٌ بتأخُّرِه. وكذلكَ مَن أَسلمَ بعدَ مدَّةٍ إذا أخبرَ برؤيتِهِ للفعلِ. وهذَا ظاهرٌ في التأخيرِ. وهذا تحقيقٌ بالغٌ.
وقدْ يُجَابُ عنهُ بأمرٍ جَدَليٍّ لا يقومُ مقامَهُ. وهوَ أنْ يقالَ: دلَّ الحديثُ المُعيَّنُ على وقوعِ هذا الفعلِ، والأصلُ عدمُ غيرِه وقوعًا، بدَلالةِ الأصلِ. فينبغي أنْ يكونَ وقوعُهُ بيانًا. وهذَا قدْ يقوَى إذَا وجدنَا فعلاً ليسَ فيهِ شيءٌ ممَّا قامَ الدَّليلُ علَى عدمِ وجوبِه. فأمَّا إذا وُجدَ فيهِ شيءٌ من ذلكَ، فإذا جعلناهُ مبيِّنًا بدلالةِ الأصلِ على عدمِ غيرهِ، ودلَّ الدليلُ على عدمِ وجوبهِ: لزمَ النَّسخُ لذلكَ الوجوبِ الذي ثبتَ أوَّلاً فيهِ.
ولا شكَّ أنَّ مخالفةَ الأصلِ أقربُ من التزامِ النَّسخِ.
وقولُها: وكانَ يَفتتحُ الصَّلاةَ بالتكبيرِ يدلُّ على أمورٍ :
أحدُها: أنَّ الصَّلاةَ تُفْتَتَحُ بالتحريمِ، أَعنِي ما هوَ أعمُّ مِنَ التَّكبيرِ، بمعنَى أنَّهُ لا يكتفِي بِالنِّيَّةِ في الدخولِ فيهَا. فإنَّ التَّكبيرَ تحريمٌ مخصوصٌ. والدَالُّ على وجودِ الأخصِّ دالٌّ على وجودِ الأعمِّ. وأعنِي بالأعمِّ ههنا: هوَ المطلقُ. ونقلَ بعضُ المتقدِّمينَ خلافَه. وربَّما تأوَّلَه بعضُهم على مالِكٍ. والمعروفُ خلافُه عنه. وعن غيرِه.
الثَّاني: أنَّ التحريمَ يكونُ بالتكبيرِ خُصُوصًا. وأبو حنيفةَ يُخالفُ فيهِ ويكتفِي بمجرَّدِ التعظيمِ. كقولِه: ((اللهُ أجلُّ، أو أعظمُ)) والاستدلالُ على الوجوبِ بهذَا الفعلِ، إمَّا على الطريقةِ السَّابقةِ مِن كونهِِ بيانًا للمجملِ. وفيهِ ما تقدَّمَ. وإمَّا بأنْ يُضمَّ إلى ذلكَ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صلُّوا كمَا رأيتُموني أُصلِّي)) وقدْ فعلُوا ذَلك في مواضِعَ كثيرةٍ. واستدلُّوا على الوجوبِ بالفعلِ، معَ هذَا القولِ. أعني قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( صلُّوا كمَا رأيتمونِي أصلِّي)) وهذَا إذَا أُخِذَ مُفردًا عن ذكرِ سببِه وسياقِه: أَشْعَرَ بأنَّهُ خطابٌ للأُمَّةِ بأنْ يُصلُّوا كمَا صَلَّى_ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، فيقوَى الاستدلالُ بهذهِ الطريقةِ على كلِّ فعلٍ ثَبَتَ أنَّهُ فَعَلَهُ في الصَّلاةِ. وإنَّمَا هذا الكلامُ قِطْعَةٌ مِن حديثِ مالكِ بنِ الحُويرِثِ قالَ: أتيْنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحنُ شَبَبَةٌ متقاربونَ - فأقمنَا عندَه عشرينَ ليلةً. وكانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحيمًا رفيقًا. فظنَّ أنَّا قدِ اشْتَقْنَا أهلَنَا. فسألنَا عمَّنْ تركنَا منْ أهلِنَا؟ فأخبرناهُ. فقالَ: ((ارجعُوا إلى أهليكُمْ، فأقيمُوا فيهمْ وعلِّموهُم، ومُروهُم. فإذا حضرتِ الصَّلاةُ فليؤذِّنْ لكمْ أحدُكم. ثم ليؤُمَّكُم أكبرُكُم)) زادَ البخاريُّ ((وصلُّوا كمَا رأيتمونِي أصلِّي)) فهذا خطابٌ لمالكٍ وأصحابِه بأن يُوقِعُوا الصَّلاةَ على ذلكَ الوجهِ الذي رأوْا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلِّي عليهِ ويُشاركُهم في هذَا الخطابِ كلُّ الأمَّةِ في أنْ يوقِعُوا الصَّلاةَ على ذلكَ الوجهِ. فمَا ثبتَ استمرارُ فعلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهِ دائمًا: دخلَ تحتَ الأمرِ، وكانَ واجبًا. وبعضُ ذلكَ مقطوعٌ بهِ، أي مقطوعٌ باستمرارِ فعلهِ لهُ. وما لمْ يدلَّ دليلٌ على وجودِه في تلكَ الصَّلواتِ التي تعلَّقَ الأمرُ بإيقاعِ الصَّلاةِ علَى صفتِها - لا يُجزَمُ بتناولِ الأمرِ لَهُ.
وهذَا أيضًا يقالُ فيهِ من الجدلِ ما أشرنَا إليهِ.
وقولُها: ((والقراءةُ بـ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ)) تَمسَّكَ بهِ مالكٌ وأصحابهُ فِي تركِ الذِّكرِ بينَ التكبيرِ والقراءةِ. فإنَّهُ لو تخلَّلَ ذِكْرٌ بينَهُمَا لم يكن الاستفتاحُ بالقراءةِ بـ(الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ). وهذَا على أنْ تكونَ ((القراءةُ)) مجرورةً لا منصوبةً، واستدلَّ بهِ أصحابُ مالكٍ أيضًا على تركِ التَّسميةِ في ابتداءِ الفاتحةِ. وتأوَّلَهُ غيرُهُم على أنَّ المرادَ: يفتتحُ بسورةِ الفاتحةِ قبلَ غيرِها منَ السُّورِ. وليسَ بقويٍّ. لأنَّهُ إنْ أُجريَ مَجرَى الحكايةِِ فذلكَ يقتضِي البداءةَ بهذَا اللَّفظِ بعينِه. فلاَ يكونُ قبلَه غيرُهُ. لأنَّ ذلكَ الغيرَ يكونُ هوَ المُفْتَتَحُ بهِ. وإنْ جُعِلَ اسمًا فسورةُ الفاتحةِ لا تُسمَّى بهذَا المجموعِ. أعنِي ((الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ)) بل تُسمَّى بسورةِ الحَمدِ فلوْ كانَ لفظُ الرِّوايةِ ((كانَ يفتتحُ بالحمدِ)) لقويَ هذا المعنَى. فإنَّهُ يدلُّ حينئذٍ على الافتتاحِ بالسُّورةِ التي البسملةُ بعضُها عندَ هذا المُتأوِّلِ لهذَا الحديثِ.
وقولُها: ((وكانَ إذَا ركعَ لمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ)) أيْ: لمْ يرفَعْهُ. ومادَّةُ اللَّفظِ تدلُّ على الارتفاعِ. ومنهُ: أشخَصَ بصَرَهُ، إذا رفَعَهُ نحوَ جهةِ العُلوِّ. ومنهُ الشَّخْصُ لارتفاعهِ لِلأَبْصَارِ ومنهُ: شَخَصَ المُسافرُ: إذَا خرجَ من منزِلِه إلى غيرهِ. ومنهُ ما جاءَ في بعضِ الآثارِ ((فشَخَصَ بي)) أي: أتانِي ما يُقلِقُنِي. كأنَّهُ رُفعَ مِنَ الأرضِ لِقَلَقِهِ.
وقولُها: ((ولم يُصَوِّبْهُ)) أيْ:لم يُنَكِّسْهُ. ومنهُ الصيِّبُ: المَطَرُ. صابَ يَصوبُ إذا نزَلَ. قالَ الشَّاعرُ :
فلستِ لإنْسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ تنَزَّلَ من جَوِّ السماءِ يَصُوبُ
ومنْ أطلقَ ((الصيَّبَ)) على الغيمِ فهوَ من بابِ المَجازِ. لأنهُ سببُ الصيِّبِ الذِي هو المطرُ.
وقولُها: ((ولكنْ بينَ ذلكَ)) إشارةٌ إلى المَسنُونِ في الرُّكوعِ. وهو الاعتدالُ واستواءُ الظَّهرِ والعُنُقِ.
وقولُها: ((وكانَ إذا رفَعَ رأسَهُ من الرُّكوعِ لمْ يسجدْ حتَّى يستويَ قائمًا)) دليلٌ علَى الرَّفعِ مِن الرُّكوعِ والاعتدالِ فيهِ. والفقهاءُ اختلفُوا في وجوبِ ذلكَ على ثلاثةِ أقوالٍ.
الثالثُ: يجبُ مَا هُو إلى الاعتدالِ أقربُ. وهذا عندنَا مِن الأفعالِ التى ثَبَتَ استمرارُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهَا، أعنِي الرفعَ مِن الركوعِ.
وأمَّا قولُهُا: ((وكانَ إذا رفعَ رأسَه ُمِنَ السُّجودِ لمْ يسجدْ حتَّى يستويَ قاعدًا))، يدلُّ على الرَّفعِ من السُّجودِ، وعلى الاستواءِ في الجلُوسِ بينَ السَّجدتينِ فأمَّا الرفعُ. فلا بدَّ منهُ. لأنَّه لا يُتصوَّرُ تعدُّدُ السجودِ إلا بهِ، بخلافِ الرفعِ من الرُّكوعِ. فإنَّ الركوعَ غيرُ متعدِّدٍ. وسهَا بعضُ الفُضلاءِ مِنَ المتأخِّرينَ، فذكرَ ما ظاهرُه الخلافُ في الرفعِ مِنَ الركوعِ والاعتدالِ فيهِ. فلمَّا ذكرَ السجودَ قالَ: الرَّفعُ منَ السُّجودِ، والاعتدالُ فيهِ، والطمأنينةُ كالركوعِ. فاقتضَى ظاهرُ كلامِه: أنَّ الخلافَ فِي الرَّفِع منَ الرُّكوعِ جارٍ في الرَّفعِ منَ السُّجودِ. وهذا سهوٌ عظيمٌ. لأنَّهُ لا يُتصوَّرُ خلافٌ في الرَّفعِ مِن السجودِ، إذِ السُّجودُ متعدِّدٌ شرعًا. ولا يُتصوَّرُ تعدُّدُهُ إلاَّ بالرَّفعِ الفاصلِ بينَ السَّجدتينِ.
وقولُها: ((وكانَ يقولُ في كلِّ ركعتينِ التحيَّةَ.)) أطلقتْ لفظَ ((التحيَّةِ)) على التَّشهُّدِ كلِّهِ، من بابِ إطلاقِ اسمِ الجُزءِ على الكُلِّ. وهذا الموضِعُ ممَّا فارقَ فيهِ الاسمُ المُسمَّى. فإنَّ ((التحيَّةَ)) المُلكُ، أو البقاءُ، أو غيرُهمَا علَى مَا سيأتِي. وذلكَ لا يُتصوَّرُ قولُه. وإنَّمَا يقالُ اسمُهُ الدالُّ عليهِ. وهذا بخلافِ قولِنَا أكلتُ الخبزَ وشربتُ الماءَ. فإنَّ الاسمَ هناكَ أُريدَ بهِ المُسمَّى. وأما لفظةُ الاسمِ: فقدْ قيلَ فيهَا: إنَّ الاسمَ هوَ المُسمَّى. وفيهِ نظرٌ دقيقٌ.
وقولُها: ((وكانَ يَفْرِشُ رجلَهُ اليُسرَى، وينصِبُ رجلَه اليُمنَى))، يَستدلُّ بهِ أصحابُ أبي حنيفةَ على اختيارِ هذهِ الهيئةِ للجلوسِ للرَّجلِ. ومالكٌ اختارَ التَّوَرُّكَ وهوَ أَنْ يُفضِيَ بوَرِكِهِ إلى الأرضِ، وينصبَ رجلَهُ اليُمنَى. والشافعيُّ فرَّقَ بينَ التَّشهُّدِ الأوَّلِ والتشهدِ الأخيرِ. ففي الأوَّل اختارَ الافتراشَ على التَّوَرُّكِ. وفي الثَّانِي اختارَ التَّورُّكَ. وقدْ وردَ أيضًا هيئةُ التَّورُّكِ. فجمَعَ الشَّافعيُّ بينَ الحديثينِ فحَمَلَ الافتراشَ على الأوَّلِ. وحمَلَ التورُّكَ على الثَّانِي. وقدْ وردَ ذلكَ مُفَصَّلاً في بعضِ الأحاديثِ. ورُجِّحَ من جهةِ المعنَى بأمرين ليسَا بالقويَّيْن :
أحدُهما: أنَّ المخالفةَ في الهيئةِ قد تكونُ سببًا للتَّذكُّرِ عندَ الشُّكِّ في كونِه في التَّشهُّدِ الأوَّلِ، أو في التَّشهُّدِ الأخيرِ.
والثاني: أنَّ الافتراشَ هيئةُ استيفازٍ. فناسبَ أنْ تكونَ في التشهُّدِ الأوَّلِ. لأنَّ المُصلِّيَ مُستوفزٌ للقيامِ. والتورُّكُ هيئةُ اطمئنانٍ. فناسبَ الأخيرَ، والاعتمادُ على النَّقْلِ أَوْلَى.
وقولُها: ((وكانَ يَنْهَى عنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ)) ويُروَى: عن عَقِبِ الشِّيطانِ وفُسِّرَ بأنْ يفرشَ قدميهِ ويجلسَ بِأَلْيَتَيْهِ على عقبيهِ. وقد سُمِّيَ ذلكَ أيضًا الإقعاءُ.
وقولُها: ((ويَنْهَى أنْ يفترشَ إلى قولِهَا: السَّبُعِ.)) وهوَ أنْ يضعَ ذراعيهِ علَى الأرضِ في السُّجودِ. والسُّنَّةُ: أنْ يرفَعَهُمَا، ويكونُ الموضوعُ على الأرضِ كفَّيهِ فقطْ.
وقولُهَا: (( وكانَ يَختِمُ الصَّلاةَ بالتَّسليمِ)). أكثرُ الفقهاءِ على تعيينِ التسليمِ للخروجِ مِن الصَّلاةِ، اتِّباعًا للفعلِ المُواظَبِ عليهِ. ولا يدلُّ الحديثُ على أكثرَ مِنْ مُسمَّى السَّلامِ.

وقدْ يُؤخَذُ من هذَا: أن التَّسليمَ: مِنَ الصَّلاةِ؛ لقولِهَا: وكانَ يَخِتمُ الصَّلاةَ بالتَّسليمِ. وليسَ بالتَّشديدِ الظُّهورُ في ذلكَ. وأبو حنيفةَ يُخَالِفُ فيهِ.

***

86 - الحديثُ الرَّابعُ: عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُمَا: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذَا كَبَّرَ للِرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعهُمَا كَذَلِكَ، وقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وكانَ لاَ يَفْعَلُ ذلِكَ فِي السُّجُودِ.

اختلفَ الفقهاءُ فِي رفعِ اليديِنِ في الصَّلاةِ على مذاهبَ متعدِّدةٍ. فالشافعيُّ قالَ بالرَّفعِ في هذِه الأماكنِ الثَّلاثةِ. أعني في افتتاحِ الصَّلاةِ , والرُّكوعِ , والرفعِ منَ الرُّكوعِ. وحُجَّتُه: هذا الحديثُ. وهوَ مِنْ أقوَى الأحاديثِ سَنَدًا. وأبو حنيفةَ لاَ يرىَ الرَّفعَ في غيرِ الافتتاحِ. وهوَ المشهورُ عندَ أصحابِ مالكٍ، والمعمولُ بهِ عندَ المتأخِّرينَ منهُمْ. واقتصرَ الشَّافعيُّ على الرَّفعِ في هذهِ الأماكنِ الثَّلاثةِ لهذَا الحديثِ. وقد ثبتَ الرَّفعُ عندَ القيامِ من الركعتينِ. وقياسُ نظرِه: أن يُسنَّ الرفعُ في ذلكَ المكانِ أيضًا؛ لأَنَّه لمَّا قالَ بإثباتِ الرفعِ في الركوعِ والرَّفعِ منهُ - لكونهِ زائدًا على مَنْ روى الرَّفعَ عندَ التَّكبيرِ فقطْ - وجبَ أيضًا أن يُثبِتَ الرَّفعَ عندَ القيامِ مِنَ الرَّكعتينِ. فإنهُ زائدٌ على منْ أثبتَ الرَّفعَ في هذِه الأماكنِ الثلاثةِ فقطْ. والحُجَّةُ واحدةٌ في الموضعينِ.
*وأوَّلُ راضٍ سيرةً مَنْ يسيرُها*
والصوابُ - واللهُ أعلمُ - استحبابُ الرَّفعِ عندَ القيامِ من الرَّكعتينِ، لثبوتِ الحديثِ فيهِ. وأما كونُه مذهبًا للشافعيِّ - لأنَّه قالَ: إذا صحَّ الحديثُ فهوَ مذهبِي، أو مَا هذَا معناهُ - ففي ذلكَ نظرٌ. ولمَّا ظهرَ لبعضِ الفضلاءِ المتأخِّرينَ من المالكيَّةِ قوةُ الرَّفعِ في الأماكنِ الثلاثةِ على حديثِ ابنِ عمرَ: اعتذرَ عن تركِهِ في بلادِه فقالَ: وقد ثبتَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه رفعَ يديهِ فيهما - أيْ في الرُّكوعِ والرَّفعِ منهُ - ثبوتًا لا مَرَدَّ لهُ صحَّةً، فلاَ وجهَ للعدولِ عنهُ، إلا أنَّ في بلادِنَا هذهِ يُستحبُّ للعالِم تركُه، لأَنَّهُ إِنْ فعلَهُ نُسِبَ إلى البدعةِ، وتأذَّى في عرضِه، وربَّمَا تعدَّتِ الأذيَّةُ إلى بدنِه. فوقايةُ العرضِ والبدنِ بتركِ سنةٍ: واجبٌ في الدِّينِ.
وقولُه: ((حذوَ منكبيه))ِ، هو اختيارُ الشَّافعيِّ في منتهى الرَّفعِ، وأبو حنيفةَ اختارَ الرفعَ إلى حذوِ الأُذُنَيْن،ِ وفيهِ حديثٌ آخرُ يدلُّ عليهِ، ورُجِّحَ مذهبُ الشَّافعيِّ بقوَّةِ السَّندِ، لحديثِ ابنِ عمرَ، وبكثرةِ الرُّواةِ لهذَا المعنى، فرُوِيَ عنِ الشَّافعيِّ أنَّهُ قالَ: ورَوَى هذا الخبرَ بِضعةَ عشرَ نفْسًا مِن الصَّحابةِ، وربَّمَا سلكَ طريقَ الجمعِ. فحملَ خبرَ ابنِ عمرَ عَلَى أنهُ رفعَ يديهِ حتَّى حاذَى كفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ.
والخبرُ الآخرُ: على أنَّهُ رفعَ يديهِ حتَّى حاذتْ أطرافُ أصابعِهِ أذنيهِ. وقيلَ: إنَّهُ رُوِيَتْ روايةٌ منْ حديثِ عبدِ الجبَّارِ بنِ وائلٍ عنْ أبيهِ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتَتَحَ الصَّلاةَ رفعَ يديهِ حتَّى يحاذِي بهمَا مِنْكَبَيْهِ، ويحاذِي بإبهامَيْهِ أُذنيهِ.
واختَلفَ أصحـابُ الشَّافعيِّ متى يبتدئُ التكبيرَ؟ فمنهمْ منْ قالَ: يبتدِئُ التَّكبيرَ معَ ابتـداءِ رفـع اليدينِ، ويتمُّ التَّكبيرُ مع انتهاءِ إرسـالِ اليدينِ. ونُسبَ هذَا إلى روايةِ وائِلِ بنِِ حُجْـرٍ. وقد نُقِلَ في روايةِ وائلِ بنِ حُجْـرٍ:استقبلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكبَّرَ فرفعَ يديهِ حتَّى حاذى بهمَا أُذنيه ِ. وهذهِ الرِّوايةُ لا تدلُّ علَى ما نُسبَ إلى روايةِ وائِلِ بنِ حُجرٍ، وفي روايةٍ لأبي داوُدَ فيها بعضُ مجهولينَ، لفظُها:أنهُ رأى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يرفعُ يديهِ معَ التَّكبيرِ. وهذَا أقربُ في الدَّلالةِ. وفي روايةٍ أُخرَى لأبِي داوُدَ - فيها انقطاعٌ - أنَّهُ:أبصرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ قامَ إلى الصَّلاةِ رفعَ يديهِ، حتَّى كانتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ، وحاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذنَيْهِ، ثم كبَّرَ. وفي روايةٍ أُخرَى أجودُ مِن هاتينِ:وكانَ إذا كبَّرَ رفعَ يديهِ. وهذهِ مُحتمَلَةٌ. لأنَّا إذا قلنَا: فلانٌ فعلَ: احتملَ أنْ يُرادَ شَرَعَ في الفعلِ. ويحتملُ أنْ يُرادَ فرغَ منهُ. ويحتملُ أنْ يرادَ: جملةُ الفعلِ. ومِن أصحابِ الشَّافعيِّ مَنْ قالَ: يرفعُ اليدينِ غيرَ مكبِّرٍ. ثمَّ يبتدئُ التَّكبيرَ معَ ابتداءِ الإرسالِ، ثمَّ يُتِمُّ التَّكبيرَ مع تمامِ الإرسالِ. ويُنسبُ هذا إلى روايةِ أبي حُميدٍ السَّاعدِيِّ. ومنهمْ مَنْ قالَ: يرفعُ اليدينِ غيرَ مُكَبِّرٍ، ثمَّ يُكبِّرُ ثمَّ يُرسِلُ اليَدينِ بعدَ ذلكَ، ويُنسبُ هذَا إلى روايةِ ابنِ عُمرَ.
وهذهِ الروايةُ التي ذكرَها المصنِّفُ ظاهرُها عندي مخالفٌ لمَا نُسِبَ إلىَ روايةِ ابنِ عُمرَ، فإنهُ جعلَ افتتاحَ الصَّلاةِ ظرفًا لرفعِ اليدينِ. فإمَّا أنْ يُحملَ الافتتاحُ على أوَّلِ جزءٍ من التَّكبيرِ، فينبغِي أن يكونَ رفعُ اليدينِ معهُ. وصاحبُ هذَا القولِ يقولُ: يرفعُ اليدينِ غيرَ مكبِّرٍ.
وإمَّا أن يُحملَ الافتتاحُ علَى التَّكبيرِ كلِّهِ. فأيضًا لا يقتضِي أن يرفَعَ اليدينِ غيرَ مكبِّرٍ.
وقولُه: ((وقالَ سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَهُ))، ربَّنَا لكَ الحَمْدُ، يقتضِي جمعَ الإمَامِ بينَ الأمرينِ. فإنَّ الظَّاهرَ: أنَّ ابنَ عمرَ إنَّمَا حكَى ورَوَى عن حالةِ الإمامَةِ. فإنَّهَا الحالةُ الغالبةُ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيرُها نادرٌ جدًّا. وإنْ حُملَ اللفظُ على العُمومِ دخلَ فيهِ المُنفَرِدُ والإمامُ. وقد فُسِّرَ قولُه: ((سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ)) أي:استجَابَ اللهُ دعاءَ مَنْ حمدَهُ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في إثباتِ الواوِ وحذفِهَا.
وقولُه: ((وكانَ لا يفعلُ ذلكَ في السُّجودِ))، يعنِي الرَّفعَ. وكأنهُ يريدُ بذلكَ عندَ ابتداءِ السُّجودِ، أو عندَ الرَّفعِ منهُ، وَحَمْلُهُ علَى الابتداءِ أقربُ. وأكثرُ الفقهاءِ علَى القولِ بهذَا الحديثِ، وأنَّهُ لا يُسنُّ رفعُ اليدينِ عندَ السُّجودِ. وخالفَ بعضُهمْ فِي ذلكَ. وقالَ: يَرفَعُ لحديثٍ وردَ فيهِ. وهذَا مقتضَى ما ذكرناهُ في القاعدةِ. وهوَ القولُ بإثباتِ الزِّيادةِ وتقديمِهَا على مَنْ نَفَاهَا أو سكتَ عنهَا. والذينَ تركُوا الرَّفعَ في السجودِ سلكُوا مسلكَ التَّرجيحِ لروايةِ ابنِ عمرَ في تركِ الرَّفعِ في السجودِ، والتَّرجيحُ إنَّما يكونُ عندَ التعارضِ، ولا تعارضَ بينَ روايةِ مَنْ أثبتَ الزِّيادةَ وبينَ مَنْ نفاهَا، أو سكتَ عنهَا، إلا أنْ يكونَ النَّفْيُ والإثباتُ مُنْحَصِرَينِ في جهةٍ واحدةٍ. فإن ادُّعيَ ذلكَ فِي حديثِ ابنِ عمرَ والحديثِ الآخرِ، وثبتَ اتِّحادُ الوقتينِ: فذاكَ.

***

87 - الحديثُ الخامسُ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُمَا، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَن أَسْجُدَ علَى سَبْعةِ أَعْظُمٍ: على الجَبْهَةِ ))وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى أَنْفِهِ (( وَالْيدَيْن، والرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَميْنِ)).

الكلامُ عليهِ من وجوهٍ :
الأوَّلُ: أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى كلَّ واحدٍ منْ هذِه الأعضاءِ عظمًا باعتبارِ الجُملةِ، وإن اشتملَ كلُّ واحدٍ منهَا على عظامٍ. ويحتملُ أنْ يكونَ ذلكَ من بابِ تسميةِِ الجُملةِ باسمِ بعضِها.
الثاني: ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على وجوبِ السُّجودِ على هذهِ الأعضاءِ. لأنَّ الأمرَ للوجوبِ. والواجبُ عندَ الشافعيِّ منهَا الجبهةُ، لمْ يتردَّدْ قولُه فيهِ، واختَلَفَ قولُه في اليدينِ والرُّكبتينِ والقَدَمينِ. وهذا الحديثُ يدلُّ للوجوبِ. وقد رَجَّحَ بعضُ أصحابهِ عدمَ الوجوبِ. ولمْ أرَهُمْ عارضُوا هذَا بدليلٍ قويٍّ أقوَى مِن دلالتهِ فإنُّهُ استدلَ لعدمِ الوجوبِ بقولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ رِفاعةَ ثمَّ يَسْجُدُ فيُمَكِّنُ جبهَتَهُ، وهذَا غايتُه: أنْ تكونَ دلالتُهُ دلالةَ مفهومٍ. وهو مفهومُ لقبٍ، أو غايةٍ. والمنطوقُ الدالُّ على وجوبِ السجودِ على هذهِ الأعضاءِ:مقدَّمٌ عليهِ. وليسَ هذَا من بابِ تخصيصِ العمومِ بالمفهومِ، كما مرَّ لنَا في قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا)) مع قولِه: ((جُعِلَتْ لنَا الأرضُ مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لنَا طَهورًا)) فإنَّهُ ثَمَّةَ يُعملُ بذلكَ العُمومِ من وجهٍ، إذَا قدَّمنَا دَلالةَ المفهومِ. وههنَا إذا قدَّمنَا دَلالةَ المفهومِ: أَسقطْنَا الدَّليلَ الدَّالَّ عَلَى وجوبِ السُّجودِ علَى هذِه الأعضاءِ - أعنِي اليدينِ والرُّكبتينِ والقدمينِ - معَ تناوُلِ اللَّفظِ لهَا بخصوصِهَا.
وأضعفُ مِنْ هذَا: ما استُدلَّ بهِ على عدمِ الوجوبِ من قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَجَدَ وَجْهِي للَّذِي خَلَقَهُ)) قالُوا: فأضافَ السُّجودَ إلى الوجهِ. فإنهُ لا يلزمُ مِنْ إضافةِ السُّجودِ إلى الوجهِ انحصارُ السُّجودِ فيهِ.
وأضعفُ مِنْ هذَا: الاستدلالُ على عدمِ الوجوبِ بأنَّ مُسمَّى السُّجودِ يحصلُ بوضعِ الجبهةِ، فإنَّ هذَا الحديثَ يدلُّ على إثباتِ زيادةٍ على المُسمَّى، فلا تُتْرَكُ.
وأضعفُ منْ هذَا: المعارضةُ بقياسٍ شَبَهِيٍّ، ليسَ بقوىٍّ، مثلَ أن يقالَ: أعضاءٌ لا يجبُ كشفُها. فلا يجبُ وضعُها كغيرِها من الأعضاءِ، سوَى الجبهةِ.
وقد رجَّحَ المحامليُّ منْ أصحابِ الشَّافعيِّ القولَ بالوجوبِ. وهوَ أحسنُ عندنَا مِنْ قولِ مَن رجَّحَ عدمَ الوجوبِ.
وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنَّهُ إنْ سجدَ على الأنفِ وحدَهُ كفاهُ، وهوُ قولٌ في مذهبِ مالكٍ وأصحابِه.
وذهبَ بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ الواجبَ السُّجودُ على الجبهةِ والأنفِ معًا. وهوَ قولٌ في مذهبِ مالكٍ أيضًا. ويُحتجُّ لهذا المذهبِ بحديثِ ابنِ عباسٍ هذَا. فإنَّ في بعضِ طرقِه ((الجبهةُ والأنفُ معًا)) وفي هذِه الطَّريقِ التي ذكرهَا المصنِّفُ ((الجبهةُ، وأشارَ بيدهِ إلى أنفِه)) فقيلَ: معنَى ذلكَ: أنَّهمَا جُعلا كالعضوِ الواحدِ، ويكونُ الأنفُ كالتَّبعِ للجبهةِ. واستُدِلَّ على هذا بوجهينِ :
أحدُهما: أنَّهُ لو كانَ كعضوٍ منفردٍ عنِ الجبهةِ حُكمًا، لكانتِ الأعضاءُ المأمورُ بالسجودِ عليها ثمانيةً، لا سبعةً. فلا يُطابقُ العددَ المذكورَ في أوَّلِ الحديثِ.
الثَّاني: أنهُ قد اختلَفَت العبارةُ معَ الإشارةِ إلى الأنفِ. فإذا جُعِلاَ كعضوٍ واحدٍ أمكنَ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى أحدِهِمَا إشارةً إلى الآخَرِ. فتُطابقُ الإشارةُ العبارةَ، وربَّمَا استُنتِجَ مِن هذا: أنَّه إذَا سجَدَ علَى الأنفِ وحدَهُ أجزأَهُ، لأنهمَا إذَا جُعِلاَ كعضوٍ واحدٍ كانَ السُّجودُ على الأنفِ كالسُّجودِ علَى بعضِ الجبهةِ فيُجزئُ.
والحقُّ أنَّ مثلَ هذَا لا يعارضُ التَّصريحَ بذكرِ الجبهةِ والأنفِ، لكونِهِمَا داخلينِ تحتَ الأمرِ، وإنْ أمكنَ أنْ يُعتقدَ أنَّهمَا كعضوٍ واحدٍ من حيثُ العددُ المذكورُ. فذلكَ في التَّسميةِ والعبارةِ، لا في الحكمِ الذي دلَّ عليهِ الأمرُ.
وأيضًا: فإنَّ الإشارةَ قد لا تُعيِّنُ المشارَ إليهِ. فإنَّهَا إنَّمَا تتعلَّقُ بالجبهةِ. فإذا تقارَبَ ما فِي الجهةِ أمكنَ أنْ لا يتعيَّنَ المشارُ إليهِ يقينًا. وأمَّا اللَّفظُ: فإنهُ مُعيِّنٌ لمَا وُضِعَ لَهُ. فتقديمُهُ أَوْلَى.
الثالثُ: المرادُ باليدينِ - ههنا - الكفَّانِ. وقد اعتقدَ قومٌ أنَّ مطلقَ لفظِ ((اليدينِ )) يُحملُ عليهمَا، كما في قولِه تعالى: {فاقطعُوا أيديَهُما}واستَنْتَجُوا مِنْ ذلكَ: أنَّ التَّيمُّمَ إلى الكوعين.ِ وعلى كلِّ تقديرٍ فسواءٌ صحَّ هذَا أم لا .
فالمرادُ ههنا: الكفَّانِ. لأنَّا لوْ حملنَاهُ على بقيَّةِ الذِّراعِ: لدخلَ تحتَ المنهيِّ عنهُ مِن افتراشِ الكلبِ أو السَّبُعِ. ثمَّ تصرَّفَ الفقهاءُ بعدَ ذلكَ. فقالَ بعضُ مصنِّفِي الشَّافعيَّةِ: إنَّ المرادَ الرَّاحةُ، أو الأصابعُ. ولا يشترطُ الجمعُ بينهُمَا، بل يَكفِي أحدُهمَا. ولو سجدَ على ظهرِ الكفِّ لم يُجزِهِ. هذا معنَى ما قالَ.
الرَّابعُ: قدْ يُستدَلُّ بهذَا على أنهُ لا يجبُ كشفُ شيءٍ من هذهِ الأعضاءِ. فإنَّ مسمَّى السُّجودِ يحصلُ بالوضعِ. فمنْ وضعَهَا فقدْ أتَى بمَا أُمر بِه. فوجبَ أنْ يخرجَ عن العُهْدَةِ. وهذا يلتفتُ إلى بحثٍ أصوليٍّ. وهوَ أنَّ الإجزَاءَ في مثلِ هذَا هلْ هوَ راجعٌ إلى اللَّفظِ، أمْ إلىَ أنَّ الأصلَ عدمُ وجوبِ الزَّائدِ على الملفوظِ بهِ، مضمومًا إلى فعلِ المأمورِ بهِ؟
وحاصلُه: أنَّ فِعْلَ المأمورِ بهِ: هلْ هو عِلَّةُ الإجزاءِ، أو جزءُ علَّةِ الإجزاءِ؟ ولمْ يُختلَفْ في أنَّ كَشْفَ الرُّكبتينِ غيرُ واجبٍ. وكذلكَ القدمانِ.
أما الأوَّلُ: فلِمَا يُحذرُ فيهِ مِن كشفِ العورةِ.
وأما الثاني - وهو عدمُ كشفِ القدمينِ - فعليهِ دليلٌ لطيفٌ جدًّا، لأنَّ الشَّارعَ وقَّتَ المسحَ على الخُفِّ بمُدَّةٍ تقعُ فيهَا الصلاةُ معَ الخفِّ. فلوْ وجبَ كشفُ القدمينِ لوجبَ نزعُ الخفَّينِ. وانتقضتِ الطَّهارةُ، وبَطُلَت الصَّلاةُ. وَهَذا باطلٌ. ومَنْ نازَعَ في انتقاضِ الطَّهارةِ بنزعِ الخُفِّ، فيدلُّ عليهِ بحديثِ صفوانَ الذي فيهِ:أُمرنَا أنْ لا ننزِعَ خِفافَنَا - إلى آخرِه.
فتقولُ: لو وجبَ كشفُ القدمينِ لناقَضَهُ إباحةُ عدمِ النَّزعِ في هذهِ المدَّةِ التي دلَّ عليهَا لفظةُ ((أُمرنَا)) المحمولةِ على الإباحةِ. وأمَّا اليدانِ: فللشافعيِّ تردُّدٌ في وجوبِ كشفِهِمَا.

***

88 - الحديثُ السَّادسُ: عن أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قامَ إلى الصَّلاة يُكبِّرُ حِين يقُومُ، ثُمَّ يُكبِّرُ حِين يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، حين يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِن الرَّكعةِ؛ ثُمَّ يقولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَهْوي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِين يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثمَّ يَفْعَلُ ذلِكَ فِي صلاَتِهِ كُلِّهَا، حَتَّى يَقْضِيهَا، وَيُكَبِّرُ حين يَقُومُ مِنِ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ.

الكلامُ عليهِ من وجوهٍ :
أحدُها: أَنَّهُ يدلُّ على إتمامِ التَّكبيرِ، بأنْ يوقَعَ في كلِّ خفضٍ ورفعٍ، معَ التَّسميعِ في الرَّفْعِ مِن الرُّكوعِ. وقد اتَّفقَ الفقهاءُ على هذَا، بعْدَ أنْ كانَ وقعَ فيهِ خلافٌ لبعضِ المتقدِّمينَ. وفيهِ حديثٌ رواهُ النَّسائيُّ ((أنهُ كانَ لا يُتِمُّ التَّكبيرَ)).
الثاني: قولُه: ((يُكبِّرُ حينَ يَقومُ)) يقتضِي إيقاعَ التَّكبيرِ في حالِ القيامِ. ولا شكَّ أنَّ القيامَ واجبٌ فِي الفرائضِ للتَّكبيرِ، وقراءةِ الفاتحةِ - عندَ من يُوجبُهَا - معَ القدرةِ. فكلُّ انحناءٍ يمنعُ اسمَ القيامِ عندَ التَّكبيرِ: يُبطلُ التَّحريمَ، ويقتضِي عدَمَ انعقادِ الصَّلاةِ فرضًا.
وقولُه: ثُمَّ يقولُ:" سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "حينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، يدلُّ علَى جمعِ الإمَامِ بينَ التَّسميعِ والتَّحميدِ، لِمَا ذَكرنَا: أنَّ صلاةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموصوفَةَ محمولةٌ على حالِ الإمامةِ للغلبةِ. ويدِلُّ على أنَّ التسميعَ يكونُ حينَ الرَّفعِ، والتحميدَ بعدَ الاعتدالِ. وقدْ ذكرنَا أنَّ الفعلَ قدْ يطلقُ على ابتدائِه وعلى انتهائِه وعلَى جُملتهِ حالَ مُباشرتِه. ولاَ بأسَ بأنْ يُحملَ قولُه: ((يقولُ حينَ يرفعُ صُلبَهُ)) علَى حركتهِ حالةَ المُباشرةِ؛ ليكونَ الفعلُ مستصحِبًا في جميعِه للذِّكرِ.
الثَّالثُ: قولُه: (( يُكبِّرُ حينَ يقومُ - إلى آخرِه )) اختلفوُا في وقتِ هَذَا التَّكبيرِ. فاختارَ بعضُهُمْ أنْ يكونَ عندَ الشُّروعِ في النُّهوضِ وهوَ مذهبُ الشَّافعيِّ. واختارَ بعضُهُمْ أنْ يكونَ عندَ الاستواءِ قائمًا. وهو مذهبُ مالكٍ. فإنْ حُملَ قولُه: ((حينَ يرفعُ)) على ابتداءِ الرَّفِع، وجُعلَ ظاهرًا فيهِ: دلَّ ذلكَ لمذهبِ الشَّافعيِّ. ويرجَّحُ مِن جهةِ المعنىَ بشغلِ زمنِ الفعلِ بالذِّكرِ. واللهُ أعلمُ.

***

89 - الحديثُ السَّابعُ - عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: صلَّيتُ أنَا وعمرانُ بنُ حُصينٍ خَلْفَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ. فَكانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رأْسَهُ كَبَّرَ، وَإذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وقالَ: قدْ ذَكَّرَنِي هذا صلاَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قَالَ: صَلَّى بِنَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

((مُطَرِّفُ)) بنُ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ - مكسورُ الشِّينِ المعجمةِ، مشدَّدُ الخاءِ المكسورةِ وآخرُه راءٌ - أبو عبدِ اللهِ العامريُّ. يقالُ: إنَّهُ منْ بنِي الحَريشِ - بفتِح الحاءِ المهملةِ وكسرِ الراءِ المهملةِ وآخرُه شينٌ مُعْجَمَةٌ - والحريشُ من بنيِ عامرِ بنِ صعصعةَ ماتَ سنةَ خمسٍ وتسعينَ. متَّفقٌ على إخراجِ حديثهِ في الصحيحينِ.
والحديثُ يَدَلُّ علَى التكبيرِ في الحالاتِ المذكورةِ فيهِ، وإتمامُ التَّكبيرِ في حالاتِ الانتقالاتِ. وهوَ الذي استمرَّ عليهِ عملُ النَّاسِ وأئمةُ فقهاءِ الأمصارِ. وقدْ كانَ فيهِ مِن بعضِ السَّلفِ خلافٌ على ما قدَّمنَا. فمنهُمْ مَن اقتصرَ على تكبيرةِ الإحرامِ. ومنهمْ منْ زادَ عليهَا منْ غيرِ إِتْمَامٍ. والذي اتفقَ النَّاسُ عليهِ بعدَ ذلكَ: مَا ذكرناهُ. وأمَّا حكمُ تكبيراتِ الانتقالاتِ، وهلْ هيَ واجبةٌ أم لا؟ فذلكَ مبنيٌّ على أنَّ الفعلَ للوجوبِ أمْ لاَ؟ وإذا قلنَا: إنه ليسَ للوجوبِ رجعَ إلى ما تقدَّمَ البحثُ فيهِ، مِن أنهُ بيانٌ للمجملِ أم لا؟ فمِنْ ههنا مأخذُ مَن يَرى الوجوبَ - والأكثرونَ علَى الاستحبابِ. وإذا قلنَا بالاستحبابِ: فهل يسجدُ للسُّهوِ إذا تركَ منهَا شيئًا، ولوْ واحدةً، أو لا يسجدُ ولو تركَ الجميعَ، أو لا يسجدُ حتَّى يتركَ متعدِّدًا منهَا؟ اختلفُوا فيهِ. وليسَ لهُ بهذَا الحديثِ تعلُّقٌ، إلا أنْ يُجعلَ مقدِّمةً. فيستدلُّ بهِ على أنهُ سنَّةٌ، ويُضمُّ إليهِ مقدمةٌ أُخرَى: أنَّ تركَ السُّنَّةِ يقتضِي السُّجودَ، إنْ ثبتَ على ذلكَ دليلٌ فيكونُ المجموعُ دليلاً علَى السُّجودِ.
وأما التَّفرقةُ بينَ أن يكونَ المتروكُ مرةً أو أكثرَ: فراجعٌ إلى الاستحسانِ، وتخفيفُ أمرِ المرَّةِ الواحدةِ. ومذهبُ الشَّافعيِّ: أنَّ تركَها لا يوجبُ السُّجودَ.

***

90 - الحديثُ الثَّامنُ: عنِ البراءِ بنِ عازبٍ رضيَ اللهُ عنهُما قالَ:رَمَقْتُ الصَّلاَةَ مَعَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فِجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ: قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ.
وفي روايةِ البخاريِّ ((مَا خَلا الْقيَامَ والقَعُودَ قَريبًا مِنَ السَّوَاءِ)).

قولُه: ((قريبًا مِنَ السَّواءِ)) قد يقتضِي: إمَّا تطويلَ ما العادةُ فيهِ التَّخفيفُ، أو تخفيفَ ما العادةُ فيهِ التَّطويلُ، إذَا كانَ ثمَّ عادةٌ متقدِّمةُ. وقد وردَ ما يقتضِي التطويلَ في القيامِ، كقراءةِ ما بينَ السِّتينَ إلى المائةِ. وكما وردَ في التَّطويلِ في قراءةِ الظُّهرِ بحيثُ يذهبُ الذَّاهِبُ إلى البقيعِ فيقضِي حاجتَهُ، ثم يتوضأُ ثمَّ يأتي ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعةِ الأولى مما يُطوِّلها. وقد تكلَّمَ الفقهاءُ في الأركانِ الطويلةِ والقصيرةِ. واختلفُوا في الرَّفعِ من الركوعِ: هل هو ركنٌ طويلٌ أو قصيرٌ؟ ورجَّحَ أصحابُ الشافعيِّ: أنَّه ركنٌ قصيرٌ. وفائدةُ الخلافِ فيهِ: أنَّ تطويلَه يقطعُ الموالاةَ الواجبةَ في الصَّلاةِ. ومِن هذَا قالَ بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ: إنهُ إذا طوَّلهُ بَطُلَتِ الصَّلاةُ، وقالَ بعضُهم: لا تبطلُ حتَّى يَنقلَ إليهِ ركنًا، كقراءةِ الفاتحةِ أو التَّشهُّدِ.
وهذَا الحديثُ يَدَلُّ على أنَّ الرَّفعَ مِن الرُّكوعِ ركنٌ طويلٌ. لأنهُ لا يتأتَّى أنْ تكونَ القراءةُ في الصَّلاةِ - فرضِها ونفلِهِا - بمقدارِ ما إذَا فعلَ في الرَّفعِ منَ الرُّكوعِ كانَ قصيرًا. وهذا الذي ذُكِرَ في الحديثِِ - مِن استواءِ الصَّلاةِ - ذهبَ بعضُهم إلى أنَّهُ الفعلُ المتأخِّرُ بعدَ ذلكَ التَّطويلِ. وقد وردَ في بعضِ الأحاديثِ ((وكانتْ صلاتُهُ بعدُ تخفيفًا)).
والذي ذكرهُ المصنِّفُ عن روايةِ البُخاريِّ، وهو قولُه: ((ما خلاَ القيامَ والقعودَ - إلى آخرِه)) وذهبَ بعضُهمْ إلى تصحيحِ هذهِ الرِّوايةِ، دونَ الرِّوايةِ التي ذُكرَ فيها القيامُ. ونَسبَ روايةَ ذِكْرِ القيامِ إلى الوهمِ. وهذَا بعيدٌ عندنَا، لأنَّ توهيمَ الرَّاوي الثقةِ على خلافِ الأصلِ - لا سيَّمَا إذا لمْ يدلَّ دليلٌ قويٌّ - لا يمكنُ الجمعُ بينهُ وبينَ الزَّيادةِ، على كونِهَا وهمًا وليسَ هذَا من بابِ العُمومِ والخُصوصِ، حتَّى يحملَ العامُّ على الخاصِّ فيما عدَا القيامَ. فإنهُ قد صرَّحَ في حديثِ البراءِ في تلكَ الرِّوايةِ بذكرِ القيامِ.
ويُمكنُ الجمعُ بينهمَا بأنْ يكونَ فِعْلُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلكَ كانَ مختلفًا. فتارةً يستوِي الجميعُ. وتارةً يستوِي ما عدَا القيامَ والقعودَ وليسَ في هذَا إلا أحدُ أمرينِ :
إمَّا الخروجُ عمَّا تقتضيهِ لفظةُ ((كانَ)) - إنْ كانتْ وردتْ - مِنَ المداومةِ، أو الأكثريَّةِ.
وإمَّا أنْ يُقالَ: الحديثُ واحدٌ، اختلفَتْ رُواتُه عنْ واحدٍ. فيقتضِي ذلكَ التَّعارضَ. ولعلَّ هذَا هوَ السببُ الذِي دعَا مَن ذكرنَا عنهُ أنه نَسبَ تلكَ الرّوايةَ إلى الوهمِ ممنْ قالَهُ. وهذا الوجهُ الثَّانِي - أعنِي اتِّحَادَ الرِّوايةِ - أقوَى مِنَ الأُولَى فِي وقوعِ التَّعارضِ. وإن احتملَ غيرَ ذلكَ على الطَّريقةِ الفقهيَّةِ.
ولا يقالُ: إذا وقعَ التَّعارضُ فالذِي أثبتَ التطويلَ في القيامِ لا يُعارضُه مَن نفاهُ. فإنَّ المُثْبِتَ مقدَّمٌ على النَّافِي.
لأنَّا نقولُ، الرِّوايةُ الأُخرى تقتضِي بنصِّها عدمَ التَّطويلِ في القيامِ، وخروجَ تلكَ الحالةِ - أعنِي حالةَ القيامِ والقعودِ - عن بقيَّةِ حالاتِ أركانِ الصَّلاةِ. فيكونُ النَّفيُ والإثباتُ محصورينِ في محلٍّ واحدٍ. والنَّفيُ والإثباتُ إذا انحصرَا في محلٍّ واحدٍ تعارضا، إلاَّ أنْ يُقالَ باختلافِ هذهِ الأحوالِِ بالنِّسبةِ إلى صلاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يبقَى فيهَا انحصارٌ في محلٍّ واحدٍ بالنسبةِ إلى الصَّلاةِ. ولا يُعترضُ على هذَا إلاَّ بمَا قدَّمناهُ من مقتضَى لفظةِ ((كانَ)) إنْ وُجدتْ في حديثٍ، أو كونِ الحديثِ واحدًا عن مُخَرِّجٍ واحدٍ اختلفَ فيهِ، فليُنظَرْ ذلكَ في الرِّواياتِ، ويُحقَّق الاتِّحادُ أو الاختلافُ في مخرجِ الحديثِ. واللهُ أعلمُ.

***

91 - الحديثُ الثَّامنُ: عَنْ ثَابِتٍ البُنانيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنِّي لا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا، قَالَ ثَابِتٌ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدةِ مَكَثَ، حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ.

قولُه: ((لا آلوُ)) أي:لا أُقصِّرُ. وقد قيلَ: إنَّ الألُوَّ يكونُ بمعنَى التَّقصيرِ وبمعنَى الاستطاعةِ معًا. والسِّياقُ يرشدُ إلى المرادِِ، والألُوُّ على مثالِ: العُتُوِّ، ويقالُ: الأُلِيُّ على مثال العُتيُّ. والماضِي أَلاَ وقدْ يقالُ في هذَا المعنَى: ((أَلاَّ)) بالتَّشديدِ.
وقولُه: ((أَنْ أُصلِّيَ)) أي:ْ في أنْ أصَلِّيَ. وتقديمُ أنسٍ، رضىَ اللهُ عنهُ، لهذَا الكلامِ أمامَ روايتهِ: ليدلَّ السَّامعينَ على التَّحفُّظِ لما يأتِي بهِ ويُحقِّقَ عندَهُم المراقبةَ لاتِّباعِ أفعالِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الحديثُ: أصرحُ في الدَّلالةِ على أنَّ الرفْعَ من الرِّكُوعِ ركنٌ طويلٌ، بلْ هوَ - واللهُ أعلمُ - نصٌّ فيهِ. فلا ينبغيِ العدولُ عنهُ لدليلٍ ضعيفٍ ذُكرَ في أنهُ ركنٌ قصيرٌ. وهوَ ما قيلَ: إنهُ لمْ يسنَّ فيهِ تكرارُ التَّسبيحاتِ على الاسترسالِ، كمَا سُنَّتِ القراءةُ في القيامِ، والتَّسبيحاتُ في الرُّكوعِ والسجودِ مطلقًا.

***

92 - الحديثُ التَّاسعُ: عنْ أنسِ بنِ مالكٍ، رضيَ اللهُ عنهُ، قالَ: ومَا صلِّيْتُ خَلْفَ إِمامٍ قَطُّ أَخَفَّ صلاَةً، وَلاَ أَتَمَّ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
93 - الحديثُ العاشِرُ: عَنْ أَبِي قِلابَةَ - عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ الجَرْميِّ البصريِّ - قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، أصلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: وَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ فقَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا، وَكَانَ يَجْلسُ إِذَا رفَعَ رَأْسَه مِنَ السُّجُودِ قبْلَ أنْ يَنْهَضَ.
أرادَ بشيخِهم: أبا بُرَيدٍ - عمرٍو بنَ سلمةَ الجَرميَّ - ويقالُ: أبو يزيدَ.

حديثُ أنسِ بنِ مالكٍ: يدلُّ على طلبِ أمرينِ في الصَّلاةِ: التَّخفيفُ فِي حقِّ الإمامِ، معَ الإتمامِ وعدمِ التَّقصيرِ. وذلكَ هو الوَسطُ العدلُ. والميلُ إلى أحدِ الطرفينِ خروجٌ عنهُ. أمَّا التطويلُ في حقِّ الإمامِ: فإضرارٌ بالمأمومِينَ. وقد تقدَّمَ ذلكَ والتَّصريحُ بعلَّتهِ. وأمَّا التقصيرُ عن الإتمامِ: فبخسٌ لحقِّ العبادةِ. ولا يرادُ بالتقصيرِ ههنَا: تركُ الواجباتِ. فإنَّ ذلكَ مُفْسِدٌ موجبٌ للنَّقصِ الذِي يرفعُ حقيقَةَ الصَّلاةِ. وإِنَّمَا المرادُ - واللهُ أعلمُ التَّقصيرُ عنِ المسنوناتِ، والتَّمامُ بفعلِها.
والكلامُ علَى حديثِ أبي قلابةَ مِن وجوهٍ :
أحدُها: أنَّ هذَا الحديثَ ممَّا انفردَ به البخاريُّ عن مسلمٍ، وليسَ مِن شرطِ هذا الكتابِ، وأيضًا فإنَّ البخاريَّ خرَّجهُ مِن طرقٍ،
منهَا روايةُ وُهيبٍ، وأكثرُ ألفاظِ هذه الروايةِ التي ذكرهَا المصنِّفُ: هي روايةُ وُهيبٍ. وفي آخرِهَا في كتابِ البخاريِّ: وإذا رفعَ رأسهُ مِن السَّجدةِ الثانيةِِ جلسَ، واعتمدَ علَى الأرضِ ثمَّ قامَ. وفي روايةِ خالدٍ عن أبي قلابةَ عَنْ مَالكٍ بنِ الحُويْرِثِ الليثيِّ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي فَإذَا كَانَ في وترٍ من صلاتِه: لمْ ينهضْ حتَّى يستويَ قاعدًا.
الثاني: ((مالكُ)) بنُ الحويرثِ، ويقالُ: ابنُ الحارثِ، ويقالُ: حُويرثَةُ. والأولُ أَصَحُّ - أحدُ مَن سكنَ البصْرةَ مِنَ الصَّحابةِ، ماتَ سنةَ أربعٍ وتسعينَ. ويُكنَى أبا سليمانَ.
وشيخُهمُ المذكورُ في الحديثِ هو أبو بُرَيدٍ - بضمِّ الباءِ المُوحَّدةِ وفتحِ الراء - عمرُو بن سَلِمَة - بكسرِ اللاَّمِ - الجَرْميُّ - بفتحِ الجيمِ وسكونِ الرَّاءِ المُهملةِ.
الثالثُ: قولُه: إنيِّ لأُصلِّي بكُمْ وما أريدُ الصَّلاةَ , أي أُصلِّي صلاةَ التَّعليمِ لا أريدُ الصَّلاةَ لغيرِ ذلكَ، ففيهِ دليلٌ على جوازِ مثلِ ذلكَ، وأنَّهُ ليسَ مِن بابِ التَّشريكِ في العملِ.
الرَّابعُ: قولُه: أُصلِّي كيف رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلّي يدلُّ علَى البيانِ بالفعلِ. وأنَّهُ يَجرِي مجرَى البيانِ بالقولِ، وإنْ كانَ البيانُ بالقولِ أقوَى في الدَّلالةِ على آحادِ الأفعال؛ِ إذا كانَ القولُ ناصًّا على كلِِّ فردٍ منهَا.
الخامسُ: اختلفَ الفقهاءُ في جِلْسَةِ الاستراحةِ عقيبَ الفراغِ مِنَ الرَّكعةِ الأُولى والثالثةِ. فقالَ بها الشَّافعيُّ في قولٍ، وكذَا غيرُهُ من أصحابِ الحديثِ وأباهَا مالكٌ وأبو حنيفةَ وغيرُهما. وهذا الحديثُ يَستدِلُّ بهِ القائلونَ بهَا، وهوَ ظَاهرٌ في ذلكَ. وُعذْرُ الآخَرينَ عنهُ أنَّهُ يُحملُ علَى أنهَا بسببِ الضَعفِ للكبرِ، كمَا قالَ المغيرةُ بنُ حكيمٍ: إنهُ رأَى عبدَ اللهِ بنَ عمرَ يرجعُ مِن سجدتينِ مِن الصَّلاةِ عَلَى صدورِ قدميهِ، فلمَّا انصرفَ ذكرتُ ذلكَ لهُ، فقالَ: إنها ليستْ مِن سُنَّةِ الصَّلاةِ، وإنَّما أفعلُ ذلكَ مِن أجلِ أنِّي أشتكي. وفي حديثٍ آخرَ غيرِ هذا في فعلٍ آخرَ لابنِ عمرَ، أنهُ قالَ: إنَّ رجليَّ لا تحملانِي. والأفعالُ إذا كانتْ للجِبِلَّةِ؛ أو ضرورةِ الخِلْقةِ لا تدخلُ في أنواعِ القُربِ المطلوبةِ. فإن تأيَّدَ هذَا التأويلُ بقرينةٍ تدلُّ عليهِ، مثلَ أن يتبيَّنَ أنَّ أفعالَهُ السَّابقَةَ علَى حالة الكِبَرِ والضَّعفِ: لمْ يَكُنْ فيهَا هذهِ الجلسةُ، أو يقترنُ فِعلُهَا بحالةِ الكبَرِ، مِنْ غيرِ أنْ يدلَّ دليلٌ على قصدِ القُرْبةِ. فلا بأسِ بهذَا التأويلِ.
وقدْ ترجَّحَ في علم الأُصولِ: أنَّ ما لمْ يكُنْ مِنَ الأفعالِ مخصوصًا بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا جاريًا مَجرَى أفعالِ الجبلَّةِ، ولا ظهرَ أنهُ بيانٌ لمجملٍ، ولا عُلمَ صفتهُ مِن وجوبٍ أو ندبٍ أو غيرهِ، فإمَّا أَنْ يظهرَ فيهِ قصدُ القربةِ، أو لاَ، فإن ظهَر: فمندوبٌ، وإلا فمباحٌ. لكنَّ لقائلٍ أن يقولَ: ما وقعَ في الصَّلاةِ، فالظاهرُ أنهُ مِن هيئتِهَا، لا سيَّمَا الفعلُ الزائدُ الذِي تقتضِي الصَّلاةُ منعَهُ. وهذا قويٌّ، إلاَّ أنْ تقومَ القرينةُ على أنَّ ذلكَ الفعلَ كانَ بسببِ الكِبَرِ أو الضّعفِ فحينئذٍ يظهرُ بتلكَ القرينةِ أنَّ ذلكَ أمرٌ جِبِلِّيٌّ. فإنْ قويَ ذلكَ باستمرارِ عملِ السَّلفِ على تركِ ذلكَ الجلوسِ، فهو زيادةٌ في الرُّجْحانِ.

***

93 - الحديثُ الحادِي عشر: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ - ابْنِ بُحَيْنَةَ - رضيَ اللهُ عنهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى، فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.

الكلامُ عليهِ من وجهين :
أحدُهما: عبدُ اللهِ بنُ مالكِ بنِ بُحينةَ، وبُحَيْنةُ أمُّهُ - بضمِّ الباءِ المُوحدةِ، وفتحِ الحاءِ المُهملةِ، وبعدَها ياءٌ ساكنةٌ، ونونٌ مفتوحةٌ - وأبوهُ مالكُ بنُ القِشْبِ - بكسرِِ القافِ وسكونِ الشِّينِ المُعجمةِ، وآخرُه باءٌ - أزديُّ النَّسبِ من أزْد ِشَنُوءَةَ. تُوُفِّيَ في آخرِ خلافةِ معاويةَ. وهوَ أحدُ مَن نُسبَ إلى أمِّهِ. فعلى هذا إذا وقعَ ((عبدُ اللهِ)) في موضعِِ رفعٍ، وجبَ أن ينوَّنَ ((مالكٌ)) أبوهُ، ويرفع ((ابنُ)) لأنهُ ليسَ صفةً لمالكٍ. فيتركُ تنويُنه ويجرُّ. وإنَّمَا هوَ صفةٌ لعبدِ اللهِ بنِ مالكٍ. وإذا وقعَ ((عبدُ اللهِ)) في موضعِ جرٍّ: نُوِّنَ مالكٌ وجُرَّ ((ابنُ)) لأنهُ ليسَ ((ابنُ)) صفةً لمالكٍ. وهذَا مِن المواضعِ التي يَتوقَّفُ فيها صفةُ الإعرابِ على معرفةِ التاريخِ، وذلكَ مثلُ ((محمدِ بنِ حبيبَ اللُّغويِّ)) صاحبِ كتابِ ((المُحَبَّرِ)) في المُؤتلفِ والمُخْتَلِفِ في قبائلِ العربِ. فإنَّ ((حبيبَ)) أمُّهُ لا أبوهُ، فعلَى هذَا يمتنعُ صرفُه، ويقالُ: محمدُ بنُ حبيبَ. وقيلَ: إنهُ أبوهُ. ومن غريبِِ مَا وقفتُ عليهِ في هذَا ((محمدُ بنُ شرفَ)) القيروانيُّ الأديبُ الشَّاعرُ المُجِيدُ: أنهُ منسوبٌ إلى أُمِّهِ ((شرفَ)) ولذلكَ نظائرُ لو تُتُبِّعتْ لجُمعَ منهَا قدرٌ كثيرٌ. وقد قيلَ: إنَّ ((بُحينةَ)) أمُّ أبيهِ مالكٍ. والأوَّلُ: أصحُّ. وقد اعتنَى بجمعِهَا بعضُ الحُفَّاظِ.
الثانِي: في الحديثِ دليلٌ على استحبابِ التَّجافِي في اليدينِِ عنِِ الجنبينِ في السُّجودِ، وهوَ الذي يُسمَّى تَخْوِيَةً.
وفيهِ أيضًا عدمُ بسطِ الذِّراعينِ على الأرضِ، فإنهُ لا يُرَى بياضُ الإبطينِ معَ بسطِهِمَا. والتَّخْوِيَةُ مستحبَّةٌ للرِّجالِ؛ لأنَّ فيهَا إعمالَ اليدينِ في العبادةِ، وإخراجَ هيئتِهَا عَن صفةِ التَّكاسلِ والاستهانةِ إلى صفةِ الاجتهادِ، وقدْ يكونُ في ذلكَ أيضًا - على ما أشارَ إليهِ بعضُهم - بعضُ الحملِ على الوجهِ، الذِي يتأثَّرُ بما يلاقيهِ مِنَ الأرضِ، وهذَا مَشْروطٌ بأنْ لا يكونَ هذا الحملُ عن الوجه مُزيلاً للتَّحاملِ على الأرضِ. فإنهُ قد اشتُرطَ في السُّجودِ، والفقهاءُ خصُّوا ذلكَ بالرجالِ، وقالوا: المرأةُ تضمُّ بعضَها إلى بعضٍ، لأنَّ المقصودَ منها التَّصوُّنُ والتجمُّعُ والتستُّرُ. وتلكَ الحالةُ أقربُ إلى هذا المقصودِ.

***

95 - الحديثُ الثَّانِي عشر: عن أِِبي مسْلمةَ سعيدِ بنِ يزيدَ، قالَ: سألْتُ أَنسَ بنَ مالِكٍ: أَكَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلِّي في نَعْلَيْهِ؟ قال: نعمْ.

((سعيدُ بنُ يزيدَ)) بنِ مسلمةَ، أبو سلمةَ أزديٌّ طاحيٌّ - بالطَّاءِ المهملةِ والحاءِ المهملةِ أيضًا - منسوبٌ إلى طَاحِيَةَ - بطنٌ من الأَزْدِ - مِن أهلِ البصرةِ، متَّفقٌ على الاحتجاجِ بحديثهِ.
والحديثُ دليلٌ على جوازِ الصَّلاةِ في النِّعالِ، ولا ينبغِي أنْ يؤخذَ منهُ الاستحبابُ، لأنَّ ذلكَ لا يدخلُ في المعنَى المطلوبِ مِن الصَّلاةِ.
فإنْ قلتَ: لعلَّهُ مِن بابِ الزِّينةِ، وكمالِ الهيئةِ، فيجري مجرَى الأَرْدِيَةِ والثيابِ التي يستحبُّ التَّجمُّلُ بِهَا في الصَّلاةِ؟
قلتُ: هوَ - وإن كَانَ كذلكَ - إلاَّ أنَّ ملابستَهُ للأرضِ التِي تكثُرُ فيهَا النَّجاساتُ ممَّا يقصِّرُ بهِ عن هذا المقصودِ، ولكنَّ البناءَ على الأصلِ- إن انتهضَ- دليلٌ على الجوازِ، فيُعملُ به في ذلك، والقصورُ الذي ذكرناهُ عن الثيابِ المتجمَّلِ بها يمنعُ من إلحاقهِ بالمستحبَّاتِ، إلاَّ أَنْ يَردَ دليلٌ شرعيٌّ بإلحاقهِ بمَا يُتجمَّلُ بهِ، فيُرجعُ إليهِ، ويُتركُ هذا النظرُ.
وممَّا يقوِّي هذا النَّظرَ - إنْ لمْ يردْ دليلٌ على خلافهِ - أنَّ التزيُّنَ في الصَّلاةِ مِنَ الرُّتبةِ الثَّالثةِ مِن المَصالحِ، وهيَ رُتبةُ التزييناتِ والتَّحسيناتِ، ومراعاةُ أمرِ النجاسةِ من الرُّتبةِ الأُولَى وهيَ الضَّرورياتُ، أو منَ الثانيةِ، وهي الحاجياتُ على حسبِ اختلافِ العلماءِ في حكمِ إزالةِ النَّجاسةِ، فيكونُ رعايةُ الأُولَى بدفعِ ما قدْ يكونُ مزيلاً لهَا أرجحَ بالنَّظرِ إليهَا، ويُعملُ بذلكَ في عدمِ الاستحبابِ، وبالحديثِ في الجوازِ، ويُرَتَّبُ كلُُّ حكمٍ على ما يناسبُه، ما لمْ يمنعْ من ذلكَ مانعٌ، واللهُ أعلمُ.
وقدْ يكونُ في الحديثِ دليلٌ على جوازِ البناءِ علَى الأصلِ في حكمِ النَّجاساتِ والطهاراتِ. واختلفَ الفقهاءُ فيمَا إذا عارضَهُ الغالبُ أيُّهمَا يُقدَّمُ؟ وقدْ جاءَ في الحديثِ الأمرُ بالنَّظرِ إلى النَّعلينِ، ودلكِهِمَا إن رأَى فيهمَا أذًى، أو كَمَا قالَ، فإِذَا كانَ الغالبُ إصابة النَّجاسةِ، فالظاهرُ رؤيتُهَا لأمرِه بالنَّظرِ، فإذَا رآهَا، فالظَّاهِـرُ دلكُهُمَا لأمرِه بذلكَ عندَ الرُّؤيةِ، فإذا فعلَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانَ طَهـورًا لهُمَا علَى مَا جَاءَ في الحـديثِ - لم يكنْ ذلكَ مِن بابِ تعارضِ الأصلِ والغالبِ، بلْ يكونُ من ذلكَ البابِ ما لَوْ صلَّى فيهمَا مِن غيرِ دَلكٍ، فإن قلتَ: الأصلُ عدمُ دلكِه، قلتُ: لكنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَمرَ بشىءٍ مِن هذا لم يتركْهُ، كما بينَّاهُ، والظَّنُّ المستفادُ بهذا راجحٌ علَى الأصلِ الذي ذكرتُه، وهو أنَّهُ لم يدِلكْهُ.

***
96 - الحديثُ الثَّالثَ عشرَ: عَن أبِي قتادةَ الأنصاريِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يصلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأبِي العاصِ بنِ الربيعِ بنِ عبدِ شمسٍ، فإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.

((أبو قتادةَ)) اسمُه الحارثُ بنُ رِبْعِيٍّ - بكسرِ الرَّاءِ المُهملةِ وسكونِ الباءِ المُوحدةِ وكسرِ العينِ المُهملةِ وتشديدِ الياءِ - ابنُ بُلدُمةَ - بضم الباء والدال وفتحهما - ماتَ بالمدينةِ سنةَ أربعٍ وخمسينَ، وقيلَ: ماتَ في خلافةِ عليٍّ بالكوفةِ، وهو ابنُ سبعينَ سنةً، ويقالُ: سنةُ أربعينَ، وقيلَ: إنهُ كان بدريًّا، ولا خلافَ أنَّهُ شهدَ أُحُدًا وما بعدَها،
والكلامُ علَى هذَا الحديثِ من وجهينِ:
أحدُهما: النَّظرُ في هذا الحملِ ووجهِ إباحتِه.
الثَّانِي: النَّظرُ فيمَا يتعلَّقُ بطهارةِ ثوبِ الصبيَّةِ.
فأمَّا الأولُ: فقدْ تكلَّموا في تخريجِه على وجوهٍ :
أحدُها: أنَّ ذلكَ في النَّافلةِ، وهو مرويٌّ عن مالكٍ، وكأنَّه لمَّا رأَى المُسامحةَ في النَّافلةِ قد تقعُ في بعضِ الأركانِ والشرائطِ كانَ ذلكَ تأنيسًا بالمُسامحِة في مثلِ هذا، ورُدَّ هذَا القولُ بما وقعَ في بعضِ الرواياتِ الصحيحةِ بينمَا نحنُ ننتظرُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظُّهرِ - أو العصرِ - خرجَ علينَا حاملاً أُمَامَةَ - وذكرَ الحديثَ، وظاهرهُ يقتضِي أنَّ ذلكَ كانَ في الفريضةِ، وإن كانَ يحتملُ أنَّه في نافلةٍ سابقةٍ على الفريضةِ، وممَّا يُبعدُ هذا التأويلَ أَنَّ الغالبَ في إمامةِ النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهَا كانتْ في الفرائضِ دونَ النَّوافلِ، وهذا يتوقَّفُ على أن ْيكونَ الدليلُ قائمًا على كونِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إمامًا، وقد وردَ ذلكَ مصرَّحًا بهِ في روايةِ سُفيانَ بنِ عيينةَ بسندِه إلى أبي قتادةَ الأنصاريِّ، قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ الناسَ، وأمامةُ بنتُ أبِي العاصِ - وهي بنتُ زينبَ بنتِ رسولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عاتِقهِ، الحديثَ.
الوجهُ الثاني: أنَّ هذا الفعلَ كانَ للضَّرورةِ، وهو مرويٌّ أيضًا عن مالكٍ، وفرَّقَ بعضُ أتباعِهِ بينَ أنْ تكونَ الحاجةُ شديدةً، بحيثُ لا يجدُ مَن يكفيهِ أمرَ الصبيِّ، ويخشَى عليهِ، فهذَا يجوزُ في النَّافلةِ والفريضةِ، وإن كانَ حملُ الصبيِّ في الصَّلاةِ على معنَى الكفايةِ لأمِّهِ، لشُغلِها بغيرِ ذلكَ، لمْ يصلُحْ إلاَّ في النَّافلةِ.
وهذَا أيضًا عليهِ مِنَ الإِشكالِ: أنَّ الأصلَ استواءُ الفرضِ والنَّفلِ في الشرائطِ والأركانِ إلا مَا خصَّه الدليلُ.
الوجهُ الثالثُ: أنَّ هذَا منسوخٌ، وهو مرويٌّ أيضًا عن مالكٍ. قال أبو عمرَ: ولعلَّ هذا نُسخَ بتحريمِ العملِ والاشتغالِ في الصَّلاةِ بغيرهَا، وقد رُدَّ هذَا بأنَّ قولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ في الصَّلاةِ لشُغلاً))، كان قبلَ بَدْرٍ عندَ قدومِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ مِنَ الحبشةِ، فإنَّ قدومَ زينبَ وابنتِها إلى المدينةِ كانَ بعدَ ذلكَ، ولو لمْ يكن الأمرُ كذلكَ، لكانَ فيهِ إثباتُ النَّسخِ بمجرَّدِ الاحتمالِ.
الوجهُ الرابعُ: أنَّ ذلكَ مخصوصٌ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكرَهُ القاضِي عياضٌ، وقدْ قيلَ: هذا مخصوصٌ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ لاَ يُؤمَنُ مِنَ الطِّفلِ البولُ وغيرُ ذلكَ علَى حاملِهِ، وقد يُعصَمُ منهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتُعلَمُ سلامتُه من ذلكَ مدَّةَ حملِه.
وهذَا الذي ذكرَهُ إِنْ كانَ دليلاً على الخُصوصِ، فَبِالنِّسبةِ إلى ملابسةِ الصبيِّةِ، مع احتمالِ خروجِ النَّجاسةِ منهَا، وليسَ في ذلكَ تعرُّضٌ لأمرِ الحملِ بخصوصِه الذي الكلامُ فيهِ، ولعلَّ قائلَ هذَا لمَّا أثبتَ الخصوصيَّةَ في الحملِ بما ذكرَهُ - مِن اختصاصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوازِ عِلْمِه بعصمةِ الصبيَّةِ مِنَ البولِ حالةَ الحملِ - تأنَّسَ بذلكَ، فجعَلَهُ مخصوصًا بالعملِ الكثيرِ أيضًا، فقدْ يفعلونَ ذلكَ في الأبوابِ التي ظهرتْ خصوصياتُ النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، ويقولونَ: خُصَّ بكذا في هذا البابِ، فيكونُ هذا مخصوصًا، إلا أنَّ هذا ضعيفٌ مِن وجهينِ :
أحدُهما: أنهُ لا يلزمُ مِنَ الاختصاصِ في أمرٍ: الاختصاصُ في غيرِه بلاَ دليلٍ، فلا يدخلُ القياسُ في مثلِ هذَا والأصلُ عدمُ التَّخصيصِ.
الثَّانِي: أنَّ الذي قرَّبَ دعواهُ الاختصاصَ لجوازِ الحملِ هو ما ذكرَهُ مِنْ جوازِ اختصاصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعِلْمِ بالعِصْمَةِ مِن البوْلِ، وهذَا معنًى مناسبٌ لاختصاصِه بجوازِ ملابستِه للصبيَّةِ في الصَّلاةِ، وهو معدومٌ فيمَا نتكلَّمُ فيهِ مِن أمرِ الحملِ بخصوصهِ، فالقولُ بالاختصاصِ فيهِ قولٌ بلا عِلَّةٍ تناسبُ الاختصاصَ.
الوجهُ الخامسُ: حملُ هذا الفعلِ علَى أنْ تكونَ أمامةُ في تعلُّقِها بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأنُّسِهَا بهِ، كانتْ تتعلَّقُ بهِ بنفسِهِا فيتركُهَا، فإِذَا أرادَ السُّجودَ وضَعَهَا، فإذنْ الفعلُ الصَّادرُ منهُ، إنما هوَ الوضعُ لا الرَّفعُ، فيقلُّ العملُ الذِي تُوهِّمَ مِنَ الحديثِ، ولقدْ وقعَ لِي أنَّ هذا حسنٌ، فإنَّ لفظةَ: ((وضعَ)) لا تُساوي ((حَمَلَ)) فِي قضاءِ فعلِ الفاعلِ، فإنَّا نقولُ لبعضِ الحواملِ: ((حَمَلَ كذَا)) وإن لمْ يكنْ هو فِعْلُ الحملِ، ولا يُقالُ: ((وَضَعَ)) إلاَّ بفعلٍ حتَّى نظرتُ في بعضِ طرقِ الحديثِ الصحيحةِ، فوجدتُ فيهِ: ((فإذا قامَ أعادَها))، وهذا يقتضِي الفعلَ ظاهرًا.
الوجهُ السَّادسُ: وهو مُعتمَدُ بعضِ مصنِّفي أصحابِ الشافعيِّ، وهوَ أنَّ العملَ الكثيرَ إنَّمَا يُفسِدُ إذا وقعَ مُتواليًا، وهذهِ الأفعالُ قد لا تكونُ متواليَةً، فلاَ تكونُ مُفسِدَةً، والطمأنينةُ في الأركانِ - لاسيَّمَا في صلاةِ النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكونُ فاصلةً، ولا شكَّ أنَّ مدَّةَ القيامِ طويلةٌ فاصلةٌ.
وهذا الوجهُ إنما يخرجُ بهِ إشكالُ كونهِ عملاً كثيرًا، ولا يتعرَّضُ لمطلقِ الحملِ.
وأما الوجهُ الثَّاني - وهو النَّظرُ إلى الإِشكالِ من حيثُ الطهارةُ - فهوَ يتعلَّقُ بمسألةِ تعارضِ الأصلِ والغالبِ في النَّجاساتِ، ورجَّحَ هذا الحديثُ العملَ بالأصلِ وصحَّ في كلامِ الشافعيِّ إشارةٌ إلى هذا، قال رحمهُ اللهُ: وثوبُ أُمَامَةَ ثوبُ صبيٍّ ويُرَدُّ على هذَا أنَّ هذِه حَالةٌ فردةٌ، والناسُ يعتادونَ تنظيفَ الصِّبيانِ في بعضِ الأوقاتِ، وتنظيفَ ثيابِهمْ عن الأقذارِ، وحكاياتُ الأحوالِ لا عمومَ لهَا، فيُحتملَ أنْ يكونَ هذَا وقعَ في تلكَ الحالةِ التي وقعَ فيهَا التَّنظيفُ، واللهُ أعلمُ.
وقولهُ: ولأبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ هذَا هوَ الصَّحيحُ في نَسَبهِ عندَ أهلِ النَّسبِ، ووقعَ في روايةِ مالكٍ: لأبِي العاصِ بنِ ربيعَةَ، فقالَ بعضُهم: هو جَدٌّ لهُ، وهو أبو العاصِ بنُ الرَّبيعِ بنِ ربيعةَ، فنُسبَ في روايةِ مالكٍ إلى جدِّهِ، وهذا ليسَ بمعروفٍ.
ومنهمْ مَنِ استدلَّ بالحديثِ على أنَّ لَمْسَ المحارمِ أو مَن لا يُشتَهى غيرُ ناقضٍ للطَّهارةِ، وأجيبَ عنهُ بأنهُ يُحتملُ أنْ يكونَ مِن وراءِ حائلٍ، وهذَا يُستمدُّ مَمَّا ذكرناهُ مِن أنَّ حكاياتِ الحالِ لا عمومَ لهَا.

***
97 - الحديثُ الرابعَ عشرَ: عنْ أنسِ بنِ مالكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اعْتَدِلُوا في السُّجُوِد، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكَمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)).

لعلَّ ((الاعتدالَ)) ههنَا محمولٌ علَى أمرٍ معنويٍّ، وهوَ وضعُ هيئةِ السُّجودِ موضعَ الشَّرعِ، وعلى وَفقِ الأمرِ، فإنَّ الاعتدالَ الخَلقِيَّ الذي طلبناهُ في الرُّكوعِ لاَ يتأدَّى في السُّجودِ، فإنه ثَمَّ استواءُ الظَّهرِ والعُنُقِ، والمطلوبُ هنَا ارتفاعُ الأسافلِ علَى الأعالِي، حتَّى لو تساويَا ففِي بطلانِ الصَّلاةِ وجهانِ لأصحابِ الشَّافعيِّ وممَّا يُقوِّي هذا الاحتمالَ أنَّهُ قدْ يُفهمُ مِن قولهِ عقيبَ ذلكَ: ((وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكَمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ)) أنه كالتَّتمَّةِ للأوَّلِ، وأنَّ الأوَّلَ كالعلَّةِ لهُ، فيكونُ الاعتدالُ الذي هو فعلُ الشَّيءِ على وَفْقِ الشَّرعِ علةً لتركِ الانبساطِ انبساطَ الكلبِ، فإنهُ منافٍ لوضعِ الشَّرعِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في كراهةِ هذهِ الصِّفةِ، وقد ذُكِرَ في هذَا الحديثِ الحكمُ مقرونًا بعلَّتِه، فإنَّ التشبيهَ بالأشياءِ الخَسيسةِ مما يناسبُ تركُهُ فِي الصَّلاةِ، ومثلُ هذا التَّشبيهِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا قصدَ التنفيرَ عن الرجوعِ في الهبةِ قالَ: ((مثَلُ الراجعِ في هبتِه كالكلبِ يعودُ في قيئِهِ)) أَوْ كَمَا قَالَ.
  المتن:

باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
89 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: أقول: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج، والماء، والبرد)).
90 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ(الحمد لله رب العالمين). وكان إذا ركع، لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي قاعدا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم).

الشرح:
هذان الحديثان الشريفان يتعلقان ببيان صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، ذكر المؤلف منها ما يأتي في هذا الباب، والمشروع للمؤمن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وسائر أفعاله، كما قال الله عز وجل: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وقال عليه الصلاة والسلام: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فلهذا ذكر أهل العلم بابا خاصا لبيان صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، ليتأسى المؤمن به في ذلك على بصيرة، ومن ذلك الاستفتاح في أولها، كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر، يفتتحها بالتكبير، سواء كانت فريضة أو نافلة، ولهذا في الحديث الأخر: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) فمفتاحها الطهارة الشرعية، والتحريم الذي يدخل به فيها التكبير، والتحليل هو التسليم، ولهذا ذكر في حديث عائشة هنا أنه كان يفتتح الصلاة بالتكبير، وكما في حديث علي: ((تحريمها التكبير)) وبعد التكبير يستفتح، قال أبو هريرة رضي الله عنه إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي؟) يعني أفديك بأبي وأمي وقوله: ((بين التكبير والقراءة)) دل على أنه يفتتح بالتكبير كما دل عليه حديث عائشة وغيره.
قوله: أقول: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد)) هذا نوع من الاستفتاحات الصحيحة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو وحديث ابن عباس أصح ما ورد في ذلك، وهناك استفتاحات عدة صحت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا استفتح المؤمن أو المؤمنة بواحد منها حصل المقصود، وعلى الرجال والنساء أن يتأسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ومن ذلك أن يستفتح، إذا كبر في الصلاة فيقول: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد)). وهذا أصح ما ورد في الاستفتاحات للصلاة في الفريضة، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم استفتاحات أخرى منها حديث عمر وأبي سعيد وعائشة وغيرهم، أنه كان يستفتح بـ: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك))،وهذا الاستفتاح جاء من عدة أحاديث عن عدد من الصحابة وهو أخصرها يسهل على كل مؤمن ومؤمنة حفظه وهو نوع من الإستفتاحات الصحيحة .
ومعنى: ((سبحانك اللهم وبحمدك)) أي أنزهك تنزيها لائقا بجلالك عن كل نقص وعن كل عيب. ((وبحمدك)) أي أثني عليك، والحمد: الثناء.
((تبارك اسمك)) يعني البركة تنال بذكره سبحانه وتعالى، وقد بلغت البركة النهاية، وكل بركة فهي منه جل وعلا، تبارك الله رب العالمين.
((وتعالى جدك)) يعني عظمتك وكبرياؤك، جد الله عظمته، لأن الله سبحانه لم يلد ولم يولد، ليس له أب ولا جد، إنما هي العظمة.
((ولا إله غيرك)) أي لا معبود بحق سواك، سبحانه وتعالى، هذا معنى (لا إله) لا معبود بحق سواه جل وعلا، وهناك آلهة باطلة كثيرة كالأصنام والأشجار والأموات والجن وغير ذلك، لكنها باطلة، يعبدها الناس وهي باطلة، لا تجوز عبادتها، فالإله الحق هو الله سبحنه وتعالى رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء، كما قال سبحانه: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل).
وهناك استفتاحات أخرى كان يستفتح بها في قيام الليل عليه الصلاة والسلام ولا مانع من استعمالها في النهار وفي كل فريضة، ومنها حديث عائشة الذي رواه مسلم في الصحيح: كان يستفتح إذا قام من الليل: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا في يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
فهذا استفتاح عظيم كان يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه لصلاة الليل ولا مانع من الاستفتاح به حتى في النهار، لأن تشريعاته صلى الله عليه وسلم تعم الليل والنهار في الصلاة.
كذلك حديث ابن عباس في الصحيحين: كان يستفتح إذا قام للتهجد، يقول:
(( اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، فلك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، فلك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، فلك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)).
وهناك استفتاحات أخرى، فإذا استفتح الإنسان بواحد منها مما صح عنه صلى الله عليه وسلم حصلت السنة، ولكن أصحها ما تقدم من حديث أبي هريرة في صلاة الفريضة ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد)).
يسأل ربه أن يطهره من الذنوب بأنواع التطهير، ويباعد بينه وبين الذنوب أشد مباعدة، لأن شرها عظيم، والذنوب هي سبب الخسارة والنقص والهلاك في الدنيا والآخرة، فلهذا كان يسأل ربه أن يباعد بينه وبينها، وأن ينقيه منها.
والحديث الثاني حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين.
وهذا رواه مسلم في الصحيح، وليس على شرط المؤلف، بل هومن رواية مسلم، وشرط المؤلف ما اتفق عليه الشيخان ((كان يفتتح الصلاة بالتكبير)) كما تقدم، بقوله: (الله أكبر) هذا أول شيء في الصلاة، لا تنعقد إلا بهذا، إذا قام، بنية الصلاة، واستقبل القبلة يقول: (الله أكبر)، لهذا قال للمسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر))، أول شيء يستفتح به مع النية قوله: ((الله أكبر)) حال كونه طاهرا، مستقبل القبلة، ولهذا في الحديث الصحيح: ((إذا قمت إلى صلاتك فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن)).
قولها: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين) وهذا يدل على أنه كان يسر بالاستفتاح، ويسر بالتعوذ والتسبيح، يأتي بها سرا، ولهذا يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله، أي جهرا، أما الاستفتاح والتعوذ والتسمية فهذا سر.
((وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه)) إذا ركع يسوي ظهره برأسه، لا يرفع الرأس ولا يخفضه، ولكن بين ذلك، يكون رأسه حيال ظهره، لم يشخصه، يعني يرفعه، ولم يصوبه، يعني يخفضه، هذا السنة ويقول: (سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) هكذا يقال في الركوع، والواجب مرة (سبحان ربي العظيم) والباقي سنة مؤكدة، ويقول كذلك: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة).
ثم يرفع بعد أن يأتي بما تيسر من الذكر، وبعد أن يستقر ويطمئن حتى يرجع كل فقار إلى مكانه يرفع رأسه قائلاً: ((سمع الله لمن حمده))، هكذا يقول الإمام والمنفرد، يقول: ((ربنا ولك الحمد)) عند الرفع، فإذا استوى يقول: ((ملء السماوات والأرض)) إلخ والأفضل أن يقول: (ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد) والواجب أن يقول: (ربنا ولك الحمد) أو (اللهم ربنا ولك الحمد) والباقي سنة وكمال، وإن زاد عليه: (أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فهذا أكمل، كما كان النبي يفعل عليه الصلاة والسلام.
وإذا سجد اطمأن في سجوده واعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا رفع بعد السجدة الأولى اعتدل بين السجدتين، ولا يعجل، مثل ما يعتدل بعد الركوع، لأنه بعد الركوع يعتدل ويطمئن ولا يعجل، وهكذا بين السجدتين يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى، ويعتدل ولا يعجل، ويقول في السجود: (سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى)، والواجب مرة، والباقي سنة، وتكرار ذلك ثلاثاً أو خمساً أو أكثر سنة ويقول أيضا (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ويزيد ما تيسر له مثل (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) ويدعو في سجوده بما تيسر من الدعاء، كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو في سجوده: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره)) وكان يقول صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)) أي حري أن يستجاب لكم، ((وكان يقول في كل ركعتين التحية)) في الفريضة، يقرأ التحيات ثم يرفع للثالثة سواء كانت ثلاثية المغرب أو رباعية الظهر والعصر والعشاء، لأن هذه الأربع فيها تشهدان بعد الركعتين الأوليين يجلس ويقرأ التحيات والأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينهض في الثالثة رافعاً يديه، وكان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه، حيال منكبيه، أو حيال أذنيه وكذلك عند القيام للثالثة من التشهد الأول.
وفي النافلة يسلم من كل اثنتين لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى))، وفي لفظ أخر: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) فالأفضل أن يسلم كل ثنتين وإن أوتر في الليل بخمس أو ثلاث سردا فلا بأس، ولا يصلي أربعا جميعاً كل ثنتين لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) وهذا بمعنى الأمر، وروى أهل السنن -وزيادة النهار زيادة صحيحة- ((صلاة الليل والنهار)) فالسنة في الليل والنهار أن يصلي ثنتين ثنتين تطوعات.
((وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى)) يعنى فيما بين السجدتين والتشهد الأول، أما في التشهد الأخير فكان يتورك، يخرج رجله اليسرى من جهة اليمين ويجلس على مقعدته كما ثبت هذا في حديث أبي حميد في الصحيحين.
((وكان ينهى عن عقبة الشيطان)) عقبة الشيطان ويقال عقب الشيطان، وهو الإقعاء المشبه لإقعاء الكلب بأن ينصب ساقيه وفخذيه ويعتمد على يديه حال جلوسه هذا نهي عنه والواجب أن يفرش اليسرى وينصب اليمنى، ويجعل يديه على فخذيه أو على ركبتيه بين السجدتين وفي حال التشهد، إلا أنه في حال التشهد يقبض الخنصر والبنصر من يمناه، ويشير بالسبابة، أو يقبض الأصابع كلها ويشير بالسبابة، هكذا السنة، بين السجدتين يبسطهما على فخذيه أو على فخذيه وركبتيه كما ثبت هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام.
((وكان يختم الصلاة بالتسليم)) أي ينهي صلاته بالتسليم، فكما بدأ بالتكبير يختم بالتسليم، تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) فالصلاة تُبدأ بالتكبير وتُختم بالتسليم، والصلوات الشرعية: أقوال وأفعال تُبدأ بالتكبير وتُختم بالتسليم، ومنها صلاة الجنازة: تُبدأ بالتكبير وتُختم بالتسليم.

المتن:
91- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: ((سمع الله لمن حمده. ربنا ولك الحمد)) وكان لا يفعل ذلك في السجود.
92- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة وأشار بيده إلى أنفهواليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)).
93- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: (سمع الله لمن حمده) حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: (ربنا ولك الحمد)، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس).

هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق ببيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أن الواجب على الأمة التأسي به عليه الصلاة والسلام، وأن يصلوا كما صلى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ومن ذلك أنه كان يرفع يديه حيال منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع، هكذا رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متفق على صحته، وزاد في رواية: ((ويرفع يديه إذا قام من الثنتين بعد الجلوس)) وهكذا جاء من حديث علي وغيره، فدل ذلك على أن السنة للمصلي إماما أو مأموما أو منفردا أن يرفع يديه حيال منكبيه إذا كبر عند الإحرام، وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام إلى الثالثة من الثنتين، هذه أربعة مواضع يرفع يديه فيها حيال منكبيه أو حيال أذنيه، جاء هذا وهذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، فربما فعل هذا وربما فعل هذا، ولا يفعل هذا في السجود، فلم يكن يرفع يديه في السجود، لا انحطاطا ولا رفعا، ومثل هذا في صلاة الجنازة، يرفع يديه في التكبيرات الأربع، هذا هو السنة، الأولى والثانية والثالثة والرابعة، يكبر رافعا يديه حيال منكبيه، أو حيال أذنيه كما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفريضة.
الثاني: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين) هذه سبعة، الجبهة مع الأنف واحد، والكفين على الأرض يبسطهما على الأرض ويرفع ذراعيه، والركبتين، هذه خمسة، وأطراف القدمين فيسجد على بطون أصابع الرِّجلين معتمداً عليها، هذا هو السنة، والسجود على هذه الأعضاء السبع فرض لا بد منه، لأن الأمر يقتضي الوجوب (أمرت) والأمر له أمر للأمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) عليه الصلاة والسلام، فالواجب على المصلي في الفريضة والنافلة أن يسجد على هذه الأعضاء السبعة: وهذا للرجال والنساء جميعاً، وهكذا الحديث الثالث حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي من دوس يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام في الصلاة كبر أول ما يقوم، وهذه تكبيرة الإحرام، وهي الأولى، وهذه فريضة لا بد منها عند جميع أهل العلم، لا بد من التكبيرة الأولى بنية الصلاة، (الله أكبر) ويقال لها (تكبيرة الإحرام)، وفي الحديث: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) وهذه لا بد منها في الفرض والنفل.
ثم يكبر ثانيا حين يركع، ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع من الركوع، ثم بعد أن يستوي يقول: (ربنا لك الحمد) أو (اللهم ربنا لك الحمد)، وجاء في الأحاديث الأخرى أنه يزيد: (ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد) وجاء في حديث آخر أنه يقول بعد قوله: (ربنا ولك الحمد) يقول: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد). هذا كله من كمال الحمد، والواجب: (ربنا ولك الحمد)، أو (اللهم ربنا لك الحمد)، والباقي من كمال السنة، وزاد في رواية: (أهل الثناء والمجد يعني يا أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) كل هذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حال انتصابه بعد الركوع، والمأموم والمنفرد يقولون هذا الذكر كذلك، فالمأموم يأتي بهذا إلا إذا انحط الإمام ساجداً فيتبعه ولو لم يتم هذا الذكر.
ثم يكبر حين يهوي ساجدا، ولا يرفع يديه، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى، ثم يكبر للسجدة الثانية، ثم يكبر حين الرفع من السجدة الثانية، وهكذا في جميع الصلاة حتى يقضيها، يكبر في كل خفض ورفع، وهكذا يجب على المأمومين والمنفرد أن يصلي كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام
ويقول بين السجدتين: (رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني).

94- وعن مطرف بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمرانُ بن حصين، فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم.
95- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه،فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته. فجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريبا من السواء. وفي رواية البخاري: ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء.
96- وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه. كان إذا رفع رأسه من الركوع، انتصب قائما، حتى يقول القائل: قد نسي. وإذا رفع رأسه من السجدة مكث، حتى يقول القائل: قد نسي.

الشرح:
نحن مأمورون بالتأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن نصلي كما صلى، كما قال الله سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )، وفي صحيح البخاري رحمه الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
وفي حديث عمران بن حصين عن علي أنه صلى بهم مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمران: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان علي إذا سجد كبر، وإذا رفع كبر، وإذا قام من الثنتين بعد الجلوس إلى الثالثة كبر، وتقدم أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع، فيكبر عند الإحرام، ويكبر عند الركوع، وإذا رفع من الركوع قال: (سمع الله لمن حمده)، وإذا هوى ساجدا كبر، وإذا رفع من السجدة كبر، وإذا سجد الثانية كبر، وإذا رفع كبر، حتى قضى صلاته عليه الصلاة والسلام.
وهذه التكبيرات تكبيرات النقل مشروعة بإجماع المسلمين للإمام والمأموم والمنفرد، وإنما الخلاف في وجوبها هل تجب أو لا تجب؟
أما التكبيرة الأولى وهي تكبيرة الإحرام هذه فرض عند الجميع، لا تنعقد الصلاة إلا بها، وأما التكبيرات الأخرى تكبيرة الركوع والسجود ... لكن عمدا، عن علم وعن بصيرة، لا عن جهل.
وفي حديث البراء بن عازب الأنصاري رضي الله عنه وعن أبيه قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قراءته فركعته فاعتداله بعد الركوع فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فجلسته بين التسليم والانصراف قريبا من السواء، وفي رواية البخاري: ما خلا القيام والقعود.
هذا يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت معتدلة، متقاربة، إذا أطال في القراءة أطال في الركوع والسجود، وإذا خفف القراءة خفف الركوع والسجود، لكن مع التمام، فكانت صلاته تامة، ولهذا قال أنس رضي الله عنه – فيما صح عنه -: ما صليت خلف إمام أتم صلاة ولا أخف صلاةً من النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: كانت صلاته تخفيفا في تمام، عليه الصلاة والسلام. وقوله: " ما خلا القيام والقعود " يعني فإنه أطول، والقعود للتشهد الأخير أطول بعضَ الشيء، فصلاته متقاربة، فالسنة للإمام والمنفرد أن يكون هكذا، تأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيعتدل في الركوع والسجود ويطمئن، وهكذا في اعتداله فيما بعد الركوع يعتدل ويطمئن، وإذا كان بين، وتكون هذه الجلسات مع السجدات متقاربة، وهكذا قيامه وركوعه واعتداله بعد الركوع متقارب، إن أطال القيام أطال في الركوع والسجود، وفي اعتداله بعد الركوع وبين السجدتين، وإن لم يطل في القيام لم يطل فيها، حتى تكون الصلاة معتدلة متقاربة متناسقة، ولكن يجب الحذر من النقر والتخفيف الذي يخل بها، فهذا لا يجوز لأنه خلاف الطمأنينة، ولهذا ذكر ثابت البناني أنه سأل أنس رضي الله عنه أنه رأى يفعل شيئا في الصلاة ما رأى الناس يفعلونه، ثم بينه فقال:كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يقول القائل قد نسي، يعني يطيل إطالة بينة، ويطمئن اطمئنانا بينا، وهكذا بين السجدتين يعتدل، ولا يعجل حتى يقول القائل: قد نسي، وهذا يبين لنا أنه كان يطيل بعد الركوع وبين السجدتين حتى يفصل بين الركوع والسجود، وحتى يفصل بين السجدتين فصلا واضحا فيه طمأنينة وفيه اعتدال، هكذا يشرع للمسلمين أن يفعلوا، والمأموم تبع لإمامه، إن أطال إمامه أطال، وإن خفف خفف، لكن لا يجوز له أن يصلي مع إمام ينقر الصلاة، لأنه لما نقرها بطلت صلاته، كالذي لا يطمئن في ركوعها وسجودها، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا يطمئن في ركوعه و لا في سجوده أمره بالإعادة، وقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) حتى فعلها ثلاثا، ثم قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يفعل، قال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن – وفي اللفظ الآخر: ثم اقرأ بأم القرآن أو بما شاء الله – ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". فلابد من الطمأنينة.

المتن:
97- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
98- عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا. وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض.
99- عن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه.

الشرح:
يقول أنس رضي الله عنه في هذا الحديث: ((ما صليت خلف أحد أتم صلاة ولا أخف صلاة من النبي عليه الصلاة والسلام)) يعني كانت صلاته تخفيفا في تمام، فلم يكن يطيل على الناس إطالة تشق عليهم، ولم يكن يعجل وينقر، ولكن صلاته متوسطة بين الطول المُتعب، وبين التقصير المخل، وهكذا ينبغي للأئمة أن يصلوا صلاة يتأسون فيها بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فيطمئنون في القراءة والركوع والسجود، والاعتدال بعد الركوع، والاعتدال بين السجدتين، هكذا كان عليه الصلاة والسلام إذا ركع اطمأن حتى يرجع كل فقارٍ إلى مكانه، ويقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، يكرر ذلك , ويقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، ويقول: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح.
فالمؤمن يطمئن ولا يعجل، يقول ثلاث تسبيحات أو أربع تسبيحات أو خمس تسبيحات، أو سبع تسبيحات، أو نحو هذا، مع سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، مع الطمأنينة والركود، فيجعل كفيه على ركبتيه، ويفرج أصابعهما على ركبتيه هذا السنة، ويصبر ويحني ظهره حتى يستوي مع رأسه، هذا هو الكمال، والمجزئ تسبيحة واحدة، مع عدل الركوع، لكن كونه يطيل ويطمئن طمأنينة كافية حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، هذا هو الكمال، وإلا فالمجزئ أقل الطمأنينة والركود، وهكذا إذا اعتدل بعد الركوع واطمأن ولم يعجل، وتقدم قول أنس رضي الله عنه: كان النبي إذا اعتدل بعد الركوع يطيل حتى يقول القائل: قد نسي.
وهكذا بين السجدتين، يطمئن ويعتدل، ويقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، ويدعو، قال أنس: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا جلس بين السجدتين اطمأن حتى يقول القائل قد نسي.
وهكذا السجود يطمئن ويقول: (سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى)، والواجب مرة، لكن يكررها ثلاثا أو أكثر مع الدعاء، كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو في سجوده، ويقول صلى الله عليه وسلم: " أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم "، أي حري أن يستجاب لكم، ويقول عليه الصلاة والسلام: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ". وكان إذا سجد اعتدل في سجوده، وفرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه كما في حديث ابن بحينة، وكان يرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويعتدل في السجود، ولا يضم بعضه إلى بعض، ويعتمد على بطون الأصابع لرجليه، ويبسط يديه على الأرض، ممدودة الأصابع، ضاما بعضها إلى بعض، ممدودة حيال منكبيه أو حيال أذنيه، وكان إذا نهض إلى الرابعة من الثالثة أو من الأولى إلى الثانيةلم ينهض حتى يستوي قاعدا كما في حديث مالك بن الحويرث أنه صلى بهم مثل صلاة النبي صلى اله عليه وسلم وذكر لهم أنه إذا نهض من السجدة الثانية جلس قليلا ثم ينهض إلى الرابعة وهكذا بعد الأولى إلى الثانية، وهذه تسمى عند العلماء جلسة الاستراحة، أي: جلسة خفيفة ليس فيها دعاء وليس فيها ذكر وإنما هي جلسة خفيفة، مثل جلوسه بين السجدتين، يفترش رجله ثم ينهض، لكن لا يطيل مثل طول الجلوس بين السجدتين، وبعض أهل العلم خص هذا بكبير السن والمريض، وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا بعد ما بدَّن، بعدما ثقل، والصواب أنها سنة مطلقا، لأنها مذكورة في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، بعد الأولى في كل صلاة، وبعد الثالثة في الرباعية.

المتن:
101- وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
102- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ".

الحديث الأول حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي في نعليه، وهذا يدل على شرعية الصلاة في النعلين، وأنه لا حرج في ذلك، ومن هذا حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم فخلع نعليه وهو في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فلما سلم سألهم عن ذلك، قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، قال: ((إن جبرائيل أتاني فأخبرني أن بهما قذرا، فخلعتهما، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه ثم يصلي فيهما)). فهذا يدل على أنه إذا أراد دخول المسجد فإنه ينظر نعليه، ويقلبهما، ويزيل ما بهما من أذىً بحكهما في التراب، ويصلي فيهما، وأنه لا حرج في ذلك، ومثلها الأخفاف التي في الرجلين، وقد كانت المساجد في العهد الأول وقبل سنوات بالحصباء أو الرمل والتراب، ليس فيها فُرش، أما الآن لما فرشت فقد تتأثر بالنعال، وتتأثر بالأخفاف، فإذا تيسر أن يحفظها في محل مناسب حتى لا يؤثر على الفرش، وحتى لا يكدر على المصلين بشيء من الأوساخ، ولا سيما وأكثر الناس لا يبالون بالنعال ولا يعتنون بها، ولا ينظرونها عند الدخول، فلهذا صار خلعهم لها في محلٍ يحفظها حتى يكون ذلك أسلم للمسجد، وهذا يكون في هذا الوقت أولى وأحوط لأمرين: أحدهما ما حصل من الفرش التي تتأثر بكل شيء، والأمر الثاني أن أكثر الناس لا يبالي ولا يعتني ولا يتحفظ، بل قد يدوس الأذى ويدخل، فيقذر على الناس فرشهم وينفرهم من الصلاة في الجماعة، وبكل حال إذا كانت سليمة فالصلاة فيها جائزة ولا حرج فيها مطلقا، بل هي الأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم في اليهود والنصارى: أنهم لا يصلون في نعالهم، وقال: خالفوا أهل الكتاب، فأمر بمخالفة أهل الكتاب، وهو من الدلالة على أن الدين فيه فسحة، وأنه ليس فيه حرج، و أن الإنسان قد يحتاج إلى خفين يلبسهما في الشتاء، فيمسح عليهما ولا يستطيع خلعهما، لأنه إذا خلعهما بطل وضوؤه، فيصلي فيهما، ولو كان على فرش فإنه يعتني بها ويلاحظها عند الدخول حتى لا يكون فيها أذى ويصلي فيهما، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث الثاني حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ابنة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
هذا يدل على جواز مثل هذا في الصلاة، وأنه لا حرج أن يصلي الإنسان وهو حامل بعض أولاده، إذا سجد وضعه في الأرض وإذا قام حمله، وقد فعله النبي ليبين الجواز لأمته فقد تدعو له الحاجة، مثل أن تكون الأم ليس عندها من يحفظ أولادها، وقد يشقون عليها ويمنعونها من الصلاة إلا أن تحمل أحدهم، فإذا حملته أو حمله أبوه فلا بأس بذلك، ويضعه عند السجود حتى يتمكن من السجود ، ولكن يلاحظ في ذلك ألا يكون نجساً، بل يكون طاهراً، وثيابه طاهرة نظيفة، حتى لا يحمل النجاسة.
والحديث الثالث حديث أنس أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)). هذا يدل على وجوب الاعتدال في السجود، وأنه يسجد على سبعة أعضاء: الجبهة والأنف، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد اعتدل، وفرج بين يديه وإبطيه، وبين فخذيه وبطنه وبين فخذيه وساقيه، حتى يكون معتدلا مستقيما في السجود، لا متضاما متجمعا، بل يعتدل ويرفع بطنه عن يديه، ورجليه عن ساقيه، ويرفع يديه عن الأرض، أي: ذراعيه ويعتمد على كفيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، هكذا السنة
باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول:اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وكان إذا رفع رأسه من السجدةِ لم يسجد حتى يستوي قاعداً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقبةِ الشيطان، وينهى أن يفرش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم).

الشيخ: في هذه الأحاديث في صفة الصلاة، فالحديث الأول يتعلق بالاستفتاح وهو الدعاء بين التكبير والقراءة، وهو من سنن الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُلزم به أمته، ولم يُعلمهم دعاءً محدداً، بل دعا بجملةٍ كثيرةٍ من الأدعية، فدل على أن الأمر فيه سعة، فإن أتى به فهو سنة وفضيلة وإن لم يأت به وابتدأ بالقراءة فإنه صلاته مُجزئة إن شاء الله.
أول ما يكبر يأتي بالاستفتاح، وأصح الاستفتاحات ما في هذا الحديث أن يقول: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)) في هذا أنك إذا قلته كأنك تعترف بالخطايا وتطلب من ربك إزالتها وإزالة أثرها.
الأول: الإبعاد، أن تُبعد عنك حتى لا يضرك أثرها، إذا كان بينك وبينها بُعد المشرقين دل على أنها لا تضرك.
الثاني: الغسل،الغسل منها، بأنواع ما يُغسل به: الماء والثلج البرد، ويقول بعض العلماء: اختيار الثلج والبرد مع أنه شديد البرودة ليطفيء حرارة الذنوب، كأن الذنوب لها حرارة على البدن وعلى القلب، فإذا استعمل الثلج خفف تلك الحرارة وأزالأثرها.
والثالث: التنقية كأنه يقول: إن الذنوب تُدنس صاحبها وتوسخه، فهي تُكسب صاحبها قذرًا ووسخًا ودنسًا كثيرًا, فهو في حاجةٍ إلى ما يزيل ذلك الدنس، فطلب من ربه أن ينظفه منها ويطهره كتطهير الثوب الأبيض شديد البياض من الدنس، يعني إذا طُهر زال عنه أية دنس وأيةُ وسخ وأيةُ قذر، فهكذا طلب من ربه إزالة آثارها.
هذا الاستفتاح قلنا: إنه متفق عليه، يعني رواه البخاري ومسلم، فهو حديث صحيح، هناك استفتاحات أخرى, منها ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بقوله: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك)). اختارها للاستفتاح الإمام أحمد وقال: إنه ثناء وذكر وتنزيه وتقديس لله تعالى وتوحيدٌ له، والثناء يقوم مقام الدعاء.
وقد روي في بعض الآثار القدسية أن الله يقول: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعُطي السائلين))، فهذا سبب اختيار الإمام أحمد للاستفتاح الذي فيه الثناء ((سبحانك اللهم وبحمدك...)) إلى آخره.
هناك استفتاح أيضاً في السنن مبدوء بقوله: ((وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)) إلى آخره، مروي عن علي رضي الله عنه، وهو استفتاح طويل يستحبه أيضًا بعض العلماء، هناك استفتاح رابع لكن نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم استعماله في التهجد، إذا قام من الليل، وهو قوله: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل …)) إلى آخره، الحديث الذي مرَّ بنا في شرح الطحاوية، هذا الدعاء استفتاح توسل واستفتاح، هناك أيضًا أدعية أخرى، يعني استفتاحات.
وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة بعنوان: أنواع الاستفتاحات، ورجح أن الكل صحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يستعمل هذا، وتارة يستعمل هذا، وأنه لما لم يُعلم الأمة واحدًا منها ويقصرهم عليه, دل على أن الأمر فيه سعة.
وقد استحب شيخ الإسلام وكثيرٌ من العلماء أن يأتي بهذا تارة وأن يأتي بهذا تارة، يعني أن تستعمل قوله: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي)) حينًا،وتستعمل حينًا آخر قوله: ((سبحانك اللهم وبحمدك)).. إلى آخره،وتارة تستعمل قوله: ((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض...)) إلى آخره، وحينًا تستعمل قوله: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل...)) إلى آخره، يقولون: حتى لا يبقى شيء من السنة مهجور، إذا عملت بهذا حينًا وهذا حينًا عملت بالسنة كلها.
فتعلمها وحفظها سهلٌ وهي ميسرة، وأدلتها موجودة. في سنن النسائي أوردها متوالية تحت عنوان: الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوعٌ آخر من الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر وهكذا، حتى أورد عدة أنواع. وغيره من الأئمة سردوها تحت هذا العنوان، فإذا حفظها الإنسان وأتى بها كلها أحيا بذلك السنة، ولكن مع ذلك إذا كان يريد أن يختار فيختار واحدًا يُكثر منه، يكون أكثر استعمالاً له، والبقية يأتي بها أحيانًا، أي في كل أسبوع مرة أو في كل أسبوع مرتين أو نحو ذلك؛ حتى يعمل بمابلغه من الشريعة. وقد عرفنا أنه من السنة وليس من الواجب ولا تبطل الصلاة به.
بعده يستعيذ، يأتي بالاستعاذة لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} والاستعادة المنقولة أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه. هكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم بعض صحابته. وبعد ذلك يأتي بالبسملة، ويأتي به سرًا، هذا هو المشهور من السنة النبوية، دليله حديث عائشة الذي عندنا، تقولُ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، يعني بالتحريم، بتكبيرة الإحرام، أي لا يجعل بدلها سبحان الله، ولا لا إله إلاالله، ولا الحمد لله، ولا لا حول ولا قوة إلا بالله، بل يبدأ الصلاة بقوله: الله أكبر.
كما أنه يستعمل التكبير في التنقل، الذي هو تكبير الانتقال. فهذا هو المشهور عنه. وهذه التكبيرة ركن ثبتقوله صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) فجعل التكبير تحريمها.
فأخذوا من ذلك أن هذا التكبير ركن، تكبيرة الإحرام ركن ما تتم الصلاة إلا بها، تقول عائشة: والقراءة بالحمد لله. يعني ويستفتح القراءة بقوله: الحمد لله رب العالمين،هذا هو الذي يسمع المؤمنين،أول ما يسمعون منه: الحمد لله رب العالمين،ثم يتم الفاتحة،وليس المراد أنه يستفتح القراءة بالفاتحة، بل المراد أنه يأتي بكلمة: الحمد لله رب العالمين مبدأ لقراءته, أي يبدأ القراءة بهذه الكلمة ، ويأتينا أنه لا يستعمل البسملة، فإن هذا الحديث دليل على أنه لم يكن يأتي بالبسملة، يعني بقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد خالفت في ذلك الشافعية فاستحبوا البداءة بالبسملة، وأجابوا عن حديث عائشة هذا أن المراد يستفتح القراءة بالفاتحة، ولكن هذا في الحقيقية كلام لا حقيقة له ولا معنى له، إذا قيل: كان يقرأ الفاتحة قبل السورة، كان ذلك معلوم من الدين بالضرورة لا حاجة إلى ذكره؛ لأنه أشهر من أن يذكر فكيف يجعله محملاً لهذا الكلام؟! بل الصواب أن محمله أنه يأتي بالقراءة مبدوءة بقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هذه الجملة الثانية، يعني في حديث عائشة عشر جمل، الجملة الأولى: الافتتاح بالتكبير، والجملة الثانية: بداءة القراءة بالحمد لله يعني بقول: الحمد لله دون أن يقول: بسم الله.
الجملة الثالثة: الركوع،صفته، تقول: إنه إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه. فالتصويب: الرفع، والتشخيص: الخفض، لم يصوبه: يعني لم يجعل رأسه مرتفعًا كرأس الطائر، ولم يخفضه ، لم يصوب رأسه ولم يخفضه يعني التدلية ، يعني أنه يجعل رأسه حيال ظهره لا يشخصه ولا يصوبه، فالإشخاص أن يدليه والتصويب أن يرفعه، بل يجعله محاذيًا لظهره ويجعل ظهره مستويًا لا يجعله محدودبًا.
قد ورد النهي عن تحديب الظهر،التحديب: هو أن يقوس ظهره كأنه قوس،بل يجعله مستويًا بحيث لو وضع عليه إناء لركد،هذا الصواب.
الجملة الرابعة: الطمأنينة في الرفع، إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، يستوي قائمًا ويقف ويعود كل عضو إلى مكانه، معلوم أيضًا أنه يُطيل هذا القيام حتى يقول القائل: قد نسي.
كذلك الجملة الخامسة: إذا جلس بين السجدتين، رفع من السجدة الأولى جلس ولم يسجد السجدة الثانية حتى يستوي جالسًا، ويطيل أيضًا حتى يقول القائل: قد نسي،يطيل هذين الركنين الذي ابتلي كثير من الناس بتخفيفهما،كثير من الناس تشاهده أنه ساعة ما يرفع وهو ساجد سواء للقيام إذا ركع ثم رفع ساعة ما يرفع وهو منحط،وإذا كان جالسًا ثم سجد فساعة ما يجلس وهو منحط للسجدة الثانية دون طمأنينة،فمثل هذا خالف السنة،لم يأتِ بالطمأنينة المطلوبة،ولم يأتِ بالفصل بين السجدتين الفصل المعروف،ولم يأتِ بهذا الدعاء الذي ورد فيها من قوله: ربي اغفر لي وارحمني... إلى آخره. فهذه خمس جمل.
الجملة السادسة: تقول: وكان يقول في كل ركعتين التحية. يعني كل ركعتين يتشهد بينهما ويُسلم ويأتي بقوله: التحيات لله... إلى آخره، وهو التشهد المعروف.
الجملة السابعة: قولها: وكان يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها.يعني في حالة جلوسه يطمئن فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويجعل اليمنى خارجة من تحته منتصبة وبطون أصابعها إلى الأرض ورؤوس الأصابع إلى القبلة، هذه صفة الجلوس بين السجدتين أو الجلوس في التشهد الأول ونحو ذلك.
وقد ورد في حديث أبي حميد أنه يتورك في التشهد الأخير، التشهد الذي قبل السلام الذي يسلم بعده، لكن أبو حميد وصف الصلاة الرباعية، وذكر أنه في التشهد الأول يفترش، وفي التشهد الأخير يتورك، فيُخرج رجليه من تحته ويجلس بمقعدته على الأرض، هذا إذا كان هناك مُتسع.
من العلماء من يقول: لا يتورك إلا إذا كان محتاجًا لكبر أو مرض، فهو الذي لا تحمله رجلاه كما روي أن ابن عمر صلى معه ولدُه، فلما صلى تورك فتورك ابنه ونهاه قال: لماذا أنت تتورك وتُخرج رجليك من تحتك؟فقال: إن رجلي لا تحملاني، يعني أنه لكبر سنه يشق عليه أن يجلس جلسة المفترش.
بعض العلماء يقول: يفترش في صلاته كلها، في التشهد الأول والتشهد الأخير وسواءً كانت الصلاة ركعتين أو أربع يفترش، ولا يتورك، وبعضهم يقول: يتورك في كل تشهد بعده سلام....

الوجـه الثانـي

...كتشهد صلاة الفجر وصلاة الجمعة وصلاة النفل الركعتين، ونحو ذلك، وبعضهم يقول: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، في التشهد الأخير منهما يتورك فيه، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد،هذا صفة جلوسه أنه يجلس مفترشًا، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها،وينصب اليمنى.
الجملة الثامنة: قولها: وكان ينهى عن عُقبة الشيطان.عقبة الشيطان أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه،يضع عقبيه منتصبتان وإليتيه عليها،هذه الجلسة تسمى عقبة الشيطان، فكان ينهى عنها؛ وذلك لأنها تدل على عدم الطمأنينة، وتدل على عدم الارتياح في الصلاة وعلى العجلة أو نحو ذلك،إذا جلس مستوفزًا رافعًا قدميه،وجلس بإليتيه عليهما لم يطمئن في صلاته، فجلسته هذه تدل على الجفاء، وهكذا لو نصب إحدى رجليه عن يمينه والأخرى عن يساره وجلس بينهما وهما متصبتان يصدق على ذلك أنه عقبة الشيطان.
الجملة التاسعة: ذكرت أنه ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، يعني إذا سجد لا يبسط ذراعيه على الأرض كافتراش السبع، السبع أو الكلب يبسط يديه، إذا أقعى فإنه يمد يديه أو يمد رجليه على الأرض، فنهي عن التشبه به، المأمور أنك إذا سجدت تسجد على الكفين، وترفع الذراعين ولا تبسطهما على الأرض، حتى تكون بذلك ساجدًا سجودًا حقيقيًا، ويدل ذلك على صدق الرغبة وعلى محبة العبادة وعلى النشاط فيها والبعد عن الكسل، فهذه الصفة التى هي بسط الذراعين صفة المتكاسلين.
أما الجملة العاشرة والأخيرة: ذكرت أنه يختم الصلاة بالتسليم، يختم الصلاة بالتسليم، قد دل على ذلك الحديث الذي ذكرنا ((مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)) فيختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
وبالجملة فهذا الحديث اشتمل على صفاتٍ عديدة، والتوسع فيها وذكر الخلاف الذي فيها والكيفية وما إلى ذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكنها والحمد لله واضحة والمسلمون يعرفون كيف يبدأون صلاتهم، وكيف يختمونها، وكيف يفعلون،
يشاهدون ذلك من أئمتهم، سواء بالأفعال التي يرونهم يفعلونها أو بالسماع لما يسمعونه من الأدلة ومن شروحها ومن توجيهاتها.

القارئ:
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)) وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة)) وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين. متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يُكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صُلبه من الركعة، ثم يقولوهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يُكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يُكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ويُكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على محمد.
هذه الأحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في رفع اليدين ومواضعه، والحديث الثاني في أعضاء السجود وأسمائها وعددها، والحديث الثالث في تكبيرات النقل وعددها، فرفع اليدين ورد في ثلاثة مواضع في هذا الحديث، وورد في موضع رابع. أكثر ما ورد، يعني ورودًا ثابتًا في هذه الثلاثة، ذكر فيهذا الحديث أنه إذا افتتح الصلاة رفع يديه يعني عندما يكبر تكبيرة الإحرام. وابتداء الرفع من ابتداء التكبير، وانتهاؤه إلى المنكبين، تكون كل يد محاذية لمنكبها. ورد في بعض الروايات أنه يرفع يديه إلى أذنيه. وجُمع بينهما بأن أصابعه تحاذي الأذنين وأن الكف يحاذي المنكب فيكون بذلك رفعًا متوسطًا، هكذا يرفع يديه عند افتتاح الصلاة،يعني عند تكبيرة الإحرام.
وهذا الرفع هو آكدها، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، الأئمة كلهم يرون أن هذا الرفع من سنن الصلاة، ولم يقل أحدٌ أنه من الواجبات.
عرفنا أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام آكد ما روي في الرفع،وأنه متفق عليه، والحكمة فيه كما قال بعض العلماء: رفع الحجاب، إشارة إلى أنه يرفع الستر والحُجُب ويدخل على ربه، فعند ذلك يخشع كأنه إذا رفع هذه الحجب لم يبقَ بينه وبين ربه ما يستره. وبكل حال فهو من سنن الصلاة، ابتداء الرفع ابتداء تحريك اليدين من ابتدائه بالتكبير وانتهاؤه بانتهاء التكبير.
وبعد ذلك يضع يديه على صدره، وهو أقوى ما ورد في وضعهما، هناك من يقول: تحت سرته، ومن يقول: فوق سرته. ولكن الأصح أنهما على صدره، هذا هو الأرجح.
أما الرفع عند الركوع وعند الرفع من الركوع، فقد ثبت في هذا الحديث وثبت في عدة أحاديث كثيرة صريحة في أنه يرفع يديه إذا ابتدأ تكبيرة الركوع قبل أن ينحني يرفع يديه، ثم يحنو ظهره ويمد يديه ويكون تكبيره في حالة انحنائه، يعني قبل أن يتحرك يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه، ثم يكبر حال كونه منحنيًا للركوع، فيضع يديه على ركبتيه مفرقتي الأصابع، فهذا أيضًا رفع مسنون.
كذلك إذا تحرك من الركوع رافعًا للقيام رفعهما، فإذا استتم قائماً وإذا هو قد انتهى من رفعهما محاذيًا لمنكبيه فعند ذلك أيضًا يردهما إلى صدره. هذه ثلاثة مواضع، في حالة وقوفه معلوم أنه يقول: سمع الله لمن حمده، في حالة حركته وارتفاعه من الركوع. ويقول فيحالة قيامه: ربنا ولك الحمد.
هذه المواضع الثلاثة، أما حالة انحطاطه إلى السجود أو رفعه من السجدة الأولى إلى الجلسة أو خروره للسجدة الثانية أو قيامه من السجدة الثانية إلى الركعة، فلا يفعل ذلك،نص على ذلك ابن عمر في هذا الحديث بقوله: ولا يفعل ذلك في السجود،كان لا يفعل ذلك في السجود، لا في الانحطاط إليه ولا في الرفع منه، هذا هو المشهور.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أيضًا إذا قام من الركعتين، إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة رفع يديه حتى يحاذي بهما أيضًا منكبيه كما يفعل إذا افتتح الصلاة، فيكون هذا أيضًا موضعًا رابعًا في الصلاة الرباعية أو الثلاثية بعد التشهد الأول، وعند نهوضه يكبر ويرفع يديه.
وهكذا أيضًا يرفع يديه في تكبيرات العيد، تكبيرات العيدين الزوائد، يكبر في الأولى سبعًا وفي الثانية خمساً على اختلاف في عدد التكبير، ويرفع يديه في كل تكبيرة. وكذلك في تكبيرات صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، التكبيرات الزوائد التي في أول كل ركعة، هذه أيضًا تكبيرات في حالة القيام.
وقد استنبط من ذلك أن رفع اليدين يكون في الحالات التي ليس فيها حركة كثيرة، فإن حركة القيام إلى الركوع أو الركوع إلى القيام أو حركة التكبير في حالة القيام يعني في التحريمة حركة قليلة، وكذلك حركة القيام من الجلوس إلى القيام حركة أيضًا قليلة، وليست كحركة السجود سواء الانحطاط له أو للجلوس أو للرفع منه، فيكون رفع اليدين خاص بالانتقال الذي حركته قليلة، هذا هو المعتمد. وقد ورد في رواية أنه يرفع يديه أيضًا في تنقلات السجود، ولعل ذلك أحيانًا يعني لعله فعله مرة أو مرتين، ولكن المعتاد والأكثر أنه لا يفعله في السجود كما نص على ذلك ابن عمر.
أما الحديث الثاني فيتعلق بأعضاء السجود، يقول صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)) وفي رواية: ((أعضاء)) على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه وعلى اليدين و الركبتين و أطراف القدمين.
هذه أعضاء السجود السبعة، الجبهةُ: معلوم أنها الجبين الذي ليس عليه شعر، الذي انحسر عنه الشعر، حدها منابت الشعر، ونهايتها شعر الحاجبين، ولكن الأنف أيضًا متصل بها، يكون عضوًا واحدًا، الجبهة والأنف يكون عضوًا واحدًا، فلابد أن يسجد عليهما، فلا يسجد على الجبهة ويرفع الأنف، ولا يسجد على رأس الأنف فقط ويرفع الجبهة، بل السجود عليهما معًا، فيعتبران عضوًا واحدًا.
ولاشك أن السجود على الوجه هو آكد أعضاء السجود، وبه يُسمى ساجدًا، وبرفعه لا يسمى ساجدًا، لو سجد على الستة: على اليدين والركبتين وأطراف القدمين ورفع وجهه أو رفع صلبه ما يسمى ساجدًا حتى يضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأنه حقيقة التذلل حقيقة الخشوع، حقيقة الخضوع ، وضع الوجه على الأرض، والوجه هو أشرف أعضاء الإنسان، والوجه هو أعلاها، والوجه هو مجمع المحاسن، والوجه هو مجمع الحواس، فإذا وضع وجهه على الأرض فقد حصل منه التواضع والتذلل، وقد ظهرت فيه العبودية، فيحمله ذلك على أن يخشع وعلى أن يخضع، وعلى أن يتواضع وعلى أن يتذلل، وعلى أن يستحضر أنه خاشعًا لربه، واقع بين يديه،متذلل له، عابدٌ له غاية العبودية، فيكون هذا السجود أعظم أركان الصلاة وأشرفها بهذه الميزة، وهذه الخصوصية.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))، حيث أنه هذا السجود قد ذل لربه وخضع لـه وخشع، فلاشك أنه في هذه الحال قد قرب منه قربًا معنويًا، فهو أقرب إلى أن يجيب دعوته وإلى أن يسمعها سماع قبول، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمنٌ أن يستجاب لكم)) أي حريٌ قريب أن تستجاب دعوتكم، حيث أن الساجد خاضع وخاشع لربه ومتواضع.
أما الأعضاء الباقية فالسجود عليها للاعتماد، فالسجود على اليدين للاعتماد عليهما، والمراد الكفين، وقد تقدم أنه يُنهى عن أن يبسط ذراعيه، إذا سجدت فضع يديك وارفع مرفقيك، المرفق هو المفصل الذي بين الذراع والعضد ارفعه, وارفع أيضًا ساعدك، الساعد هو الذراع، ولا تبسطه كانبساط الكلب،لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب، فيكون السجود على الكفين، وقد أُمر بأن يضم أصابعه، حتى تكون رؤوس الأصابع إلى القبلة، هكذا ورد أنه كان يجعل رؤوس أصابعه إلى القبلة، فلا يميل بها، لا يصرف يديه ويجعل إحداهما شمالاً والأخرى جنوبًا مثلاً، يعني رؤوسها، ولا يفرقهما، يفرق الأصابع فيكون بعضها لغير القبلة، بل يضمها حتى تكون رؤوسها كلها للقبلة.
أما الركبتان فالسجود عليهما ضروري؛ وذلك لأن الاعتماد عليهما. أما القدمان فالمراد رؤوس القدمين، ومأمورٌ بأن يجعل بطون أصابع القدمين إلى الأرض ورؤوس أصابع القدمين إلى القبلة، وعليه أن يتأكد من السجود على القدمين، كثير من الناس يتهاون بذلك، حيث أنه لا اعتماد عليهما فتراه رافعًا قدميه غير ساجد عليهما، أو غير ساجدٍ على بطونهما, بل تكون قدماه مائلتين لغير السجود، أو يضع إحداهما على الأخرى، فلا يسجد إلا على ستةٍ أو نحو ذلك، يتعاهد هذه المواضع.
روي في بعض الأحاديث إذا أن العبد إذا ترك عضوًا لم يسجد عليه لم يزل ذلك العضو يلعنه؛ حيث أنه أخل بالسجود عليه، وحيث أن السجود عليه عبادة، فعليه أن يحرص، يحرص على السجود على وجهه كله، يعني جبينه وأنفه ولا يسجد على أنفه فقط ولا على جبهته فقط، ويسجد على قدميه، يجعل بطونهما إلى الأرض ولا يرفعهما ولا يسجد على رأس الإصبع مثلاً أو لا يجعل إحداهما على الأخرى أو لا يجافيهما ويميلهما، فلا يكون ساجدًا عليهما السجود الحقيقي، هكذا أُمر الساجد بأن يمكن أعضاءه من السجود؛ ليكون بذلك محققًا لهذا الاتباع.
أما الحديث الثالث فيتعلق بتكبير النقل، أي التكبير الذي ينتقل به من حالٍ إلى حال، ينتقل به من القيام إلى الركوع، يقول: الله أكبر، ينتقل به من القيام إلى السجود، يقول: الله أكبر. وهذا التكبير جعلوه من واجبات الصلاة، إذا ترك تكبيرة أو ترك أكثر من تكبيرة اعتبر قد ترك واجبًا، فإن سهوًا فإنه يسجد للسهو، وإن كان عمدًا بطلت صلاته.
وإذا عددته وجدت في كل ركعة خمس تكبيرات، وجدت في الصلاة الرباعية اثتنين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي الثنائية إحدى عشر تكبيرة، كل ركعة فيها خمس تكبيرات، التكبيرتان الزائدتان في الظهر هي تكبيرة القيام من الجلوس، من الجلوس للتشهد الأول، وتكبيرة الرفع من السجدة الثانية التي يجلس بعدها للتسليم. فإن هاتان زائدتان على الخمس .
التكبيرة الأولى للإحرام، التكبيرة الثانية للركوع، الثالثة للسجود، الثالثة للرفع من السجود، الرابعة للسجدة الثانية. هذه خمس. الثانية فيها تكبيرة القيام من السجدة الثانية إلى القيام، ثم تكبيرة الركوع ثم السجود ثم الرفع من السجود ثم السجدة الثانية. خمس تكبيرات، كل ركعة فيها خمس تكبيرات، وابتداء الخمس إما تكبيرة الإحرام وإما تكبيرة القيام من السجدة، فيزيد على ذلك في الظهر تكبيرة القيام من التشهد الأول، وتكبيرة القيام من السجود الأخير للجلسة بين السجدتين.
يحافظ المسلم على هذا التكبير حتى تتم بذلك صلاته. وقد روي عن بعض المتقدمين أنهم أنكروه، وما ذاك إلا أن بعض أمراء بني أمية كانوا يخفونه ولا يسمعه المصلون خلفهم، وكانوا يعتمدون على حركة بعضهم مع بعض؛ وذلك أن بني أمية كانوا يقتدون بعثمان رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه لما كان في آخر حياته وكبر سنه كان يُخفيه لثقله عليه، فظنوا أنه لا يكبر إلا سرًا، فصاروا يكبرون سرًا.
أما بقية الصحابة فإنهم يكبرون جهرًا، يرفعون التكبير حتى يسمعهم المصلون. والمصلون يعتمدون على سماع تكبير الإمام، فإذا سمعوه يُكبر للتحريم كبروا، وقد أكد ذلك فى المتابعة، تقدم لنا قوله صلى الله عليه وسلم فى الاقتداء: ((إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا)) إذا كبر وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا.
فدل على أنه يُكبر وأنهم يوافقونه في ذلك التكبير، الإمام يُكبر والمأمومون يكبرون، معلوم أن الحكمة من هذا التكبير:
أولاً: تنبيه المأمومين حتى يسمعوه وحتى يتابعوه، ليسوا كلهم يرونه، قد يراه أهل الصف الأول أو بعضهم والباقون لا يرونه، فلأجل ذلك ينبههم بهذا التكبير.
ثانيًا: التكبير ذكر، يشتمل على التعظيم، إذا قلت: الله أكبر فمعناه الله أجل وأعظم من كل شيء، ولاشك أنك إذا قلت ذلك عن قلب، إذا قلت ذلك معتقدا بقلبك كان ذلك أرسخ لهذا التكبير ولهذه العظمة في قلبك، ولاشك أن من استحضر عظمة الله سبحانه في صلاته وفي كل حالاته واستحضر أنه أعظم وأجل من جميع المخلوقات خضع لـه وذل وتواضع لـه واستكان، أي الله أكبر وأجل من كل شيء.
علمنا أن تكبيرة الإحرام عندما يريد التحريم بالصلاة، في الحديث تحريمها التكبير، عندما يُسوي الإمام الصفوف وينتهي من تسويتها يُكبر فيتبعونه بالتكبير، ثم يبدأ بعد ذلك في القراءةِ، تكبيرة الركوع عندما يتحرك، عندما يتحرك منحنيا منحنيًا للركوع يأتي لها في حال تحركه، وينتهي بها في حالة انتهائه.
أما في رفعه فلا يُكبر بل يقول: سمع الله لمن حمده، في هذا الركن خاصة إذا رفع من الركوع فإنه يُسمع؛ وذلك لأن هذا الركن بعده حمد لله، فكأنه يذكرهم ويقول: احمدوا الله؛ فإن الله يسمع من يحمده، والسمع هنا سماع استجابة، يعني سمع الله لمن حمده، أي استجاب أو سمع سماع قبول وقبل منكم هذا الحمد، ويثيبكم عليه.
أما إذا رفع من الركوع واستوى قائمًا فإنه يأتي بالحمد، لما ذكرهم الإمام وقال: سمع الله لمن حمده، فكأنهم انتبهوا فقالوا: إذا علمنا أن الله يسمع من يحمده فلماذا لا نحمده، نبادر فنحمده فنقول: ربنا ولك الحمد، تنبيه لهم على أن هذا موضع الحمد.
أما إذا أراد أن يسجد فيكبر حالة انحنائه فلا يأتي بالتكبير قبل أن ينحني ولا يأتي بالتكبير أول ما يتحرك بل يأتي به في حالة.. سقط..وعليه أن يُسرع الحركة حتى لا يُسابقه المأمومون.
بعض الأئمة ينحني ولا يكبر إلا إذا وصل إلى الأرض، فقد يسابقونه ويتحركون قبل أن يسمعوا تكبيره، عليه أن يجعل تكبيره في حالة حركته.
كذلك تكبيرته إذا رفع من السجدة، عندما يتحرك رافعاً رأسه يكبر بعد ما يرفع رأسه، وينتهي إذا جلس، تكون إذا جلس بين السجدتين.
كذلك تكبيرته إذا سجد للسجدة الثانية يكبر ساعة ما يتحرك نحو الأرض يقول: الله أكبر، وينتهي بنهاية سجوده, تكبيرته إذا قام عندما يرفع رأسه من السجدة الثانية ناهضاً للركعة الثانية يأتي أيضاً بهذه التكبيرة. تكبيرته إذا قام من الركعتين، إذا جلس للتشهد الأول وانتهى منه ونهض كبر حالة ما يتحرك، هذا بالنسبة إلى الإمام.
أما المأموم فإنه أيضاً يتابع الإمام في هذا التكبير كله إلا التسميع فلا يقول: سمع الله، بل يقتصر على التحميد؛ وذلك لأن قصد الإمام بالتسميع تنبيه المأمومين، أما التكبير فإنه ذكر، فيوافق الإمام في تكبيره فيقول: الله أكبر كما يقوله الإمام.
المنفرد كالإمام، يسمع كما يسمع، ويكبر كما يكبر، فهذا التكبير هو من واجبات الصلاة. وكذلك التسميع والتحميد، وأذكار الركوع والسجود الذي هو التسبيح في الركوع والسجود ونحو ذلك، هذه من الواجبات التي تتم الصلاة بفعلها والمحافظة عليها. ونختم ببعض الأسئلة.

القارئ:
...بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، وركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته فجلسته بين السجدتين، فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف _قريباً من السواء. وفي رواية البخاري: ما خلى القيام والقعود قريباً من السواء.
وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لا آل أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي.

الشيخ:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد.
هذه أحاديث في صفة الصلاة، فالحديث الأول في تكبيرات الانتقال، تكبير النقل: هو أن يكبر عندما ينتقل. وقد تقدم حديث في ذلك، وذكرنا أن في كل ركعة أربع تكبيرات، وأن في الرباعية ثنتان وعشرون تكبيرة، وفي الثلاثية سبعة عشر تكبيرة، وفي صلاة الفجر إحدى عشر تكبيرة؛ وذلك لكونها تزيد بتكبيرة الرفع التي للجلوس.
فهذه التكبيرات قد خفيت على بعض المتقدمين؛ وذلك أن بعض الأئمة كانوا يصلون وهم كبار الأسنان فيصعب عليهم رفع الصوت بالتكبير، ويصير انتقال المأمومين بسماع الحركة، ولكن تحققوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر عندما ينتقل، إلا إذا رفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وإذا انصرف التفت للخروج من الصلاة فإنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله.
أما بقية انتقالاته فإنه يستعمل التكبير، والحكمة في ذلك والله أعلم تذكير المأمومين الذين يسمعون، وتذكير المنفرد نفسه، وتذكير الإمام نفسه بهذا الوصف لله تعالى، وهو كونه أكبر، فإنك كلما كررت أو كلما سمعت الله أكبر كان ذلك مذكرًا لك لكبرياء الله. ومن عظّم الله وكبره، واعتقد أنه أكبر من المخلوقات كلها، عظم قدر ربه في قلبه، وصغر ما دونه، صغرت المخلوقات عنده واحتقرت مهما كان مقدارها، سواء كانت موجودة على قيد الحياة أو فانية كلها تصير حقيرة ولا يبقى في قلبه قدر لها، وإنما القدر العظيم لله تعالى الذي هو أكبر، يعني أكبر من كل شيء، وكل شيء فهو حقير فقير ناقص أمامه. فهذا هو السبب في تكرار التكبير.
أما الحديث الثاني ففيه مدة البقاء في الأركان أو مقدار البقاء في الأركان، يقول في هذا الحديث البراء: إنه رمق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدر مكثه في كل ركن فوجد الأركان متساوية، ولكن في الرواية الثانية استثنى القيام والقعود فإنها أطول من غيرها. وإذا مشينا على الرواية الأولى فإنه ليس المراد التسوية بين القيام والركوع، بل المراد التقارب، وأنه إذا أطال في ركن أطال في بقية الأركان، وهذا هو السبب في الطمأنينة وفي حضور القلب، وفي الإتيان بالأفعال التي يأتي بها وحصول الحكمة من ورائها.
أولاً: في الحديث التسويه بينها، يعني التقارب بينها، فإذا مثلاً ركع مكث في ركوعه مثلاً ربع دقيقة أو نحو ذلك، أو نصف دقيقة إذا ركع، ثم إذا رفع من الركوع مكث في رفعه قبل أن يسجد مثل مكثه في الركوع نصف دقيقة أو دقيقة أو ما أشبهها،على قدر ما يتحمله.ثم إذا سجد فكذلك مكث بقدر سجوده يعني دقيقة أو ثلثي دقيقة أو نصف دقيقة قدر ما مكث في السجود. وإذا جلس بين السجدتين فكذلك يعني مثل قيامه مثل ركوعه، أو مثل قيامه بعد الركوع، يعني متقارب، وهكذا يفعل في السجدة الثانية. هذا يسوي بين أركان الصلاة، يمكث في هذا بقدر ما يمكث في هذا.
وقد حفظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يسبح في السجود عشر تسبيحات، حفظ أنهم صلوا خلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان أميرًا على المدينة فحسبوا تسبيحات الركوع وتسبيحات السجود عشرًا عشرًا، أنه كان يقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم حتى يقولوا عشراً، وفي السجود سبحان ربي الأعلى حتى يعدوا عشراً.
أما في الرفع من الركوع فحفظ أنه كان يدعو بالثناء، حفظ من الثناء الذي كان يدعو فيه أن يقول: ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. هذا مما حفظ في الرفع من الركوع.
وسمع مرة رجلاً لما رفع من الركوع قال: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيه، فأخبر بأنه رأى الملائكة يبتدرونها، ليكتبوها، مما يدل على أنه أقر هذا الحمد: حمداًَ كثيراً طيباً مباركاً فيه، وروي أيضًا أنه كان يقول:((ربنا لك الحمد كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجه، وعز جلاله)).
وبكل حال فإنه موطن فيه الثناء، يعني يندب فيه أن يشتغل بالثناء على الله وبحمده، وبتكرار هذا الحمد. ويمكث فيه بقدر ركوعه، أو بقدر سجوده كما ذكرنا.
حفظ أيضاً أنه قال في الركوع: ((عظموا فيه الرب)) يعني أكثروا من تعظيم الله والثناء عليه، وقال في السجود: ((اجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)) يعني: حري أن تستجاب دعوتكم؛ لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فحث على الدعاء في السجود ولم يحدد لهم دعاء معينًا، بل أطلق الأمر لهم. ونكمل بعد الأذان.
إن هذه الأركان التي هي: الركوع، والرفع منه، والسجود، والاعتدال، والجلسة بين السجدتين، والسجود الثاني، فهذه من أركان الصلاة كما هو معروف. والأدعية فيها والأذكار فيها تعتبر من واجبات الصلاة، التسبيح في الركوع واجب، والتسبيح في السجود واجب، وقول: ربنا ولك الحمد واجب، وقول: رب اغفر لي واجب، لابد أن يأتي بالقدر الواجب، فإذا أتى بقوله: سبحان ربي الأعلى مرة كفى، ولكن قد لا تحصل الطمأنينة التي هي الركود. وإذا أتى بقول: ربي اغفر لي مرة كفى، ولكن لابد من الطمأنينة التي هي الركود، وهكذا يقال في بقية أفعال الصلاة.
نقول في الرواية الثانية أنه استثنى القيام والقعود؛ وذلك لأنهما أطول، القعود الذي هو التشهد، الجلوس للتشهد معلوم أنه أطول من جنس السجود وجنس الركوع؛ وذلك لأنه يقرأ فيه التشهد ثم يأتي فيه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيه بأدعية، فهو أطول من جنس الركوع أو أدعية الركوع أو أدعية السجود. كذلك القيام،أطول أيضاً من الركوع؛ وذلك لأن فيه قراءة الفاتحة، ثم قراءة ما تيسر من القرآن، فهو أطول من جنس الركوع وجنس السجود بل يطيله إطالة كبيرة.
وأما الأحاديث التي فيها أن ركوعه بقدر قيامه، فالمراد أنه يطيل الركوع إذا أطال القيام، ويقصر الركوع إذا قصر القيام، فإذا قام في الصلاة وقرأ قراءة طويلة يعني: قدر مثلاً عشر دقائق، أو خمس عشرة دقيقة فإنه يطيل الركوع، يطيل الركوع أيضاً يعني: نحو دقيقتين، أو ثلاث دقائق. وإذا خفف القراءة جعل القراءة مثلاً قدر خمس دقائق، أو سبع دقائق، خفف الركوع وجعله دقيقة، أو ثلثي دقيقة، أو ما أشبه ذلك. هذا هو المعتاد أنه إن أطال ركني القيام والقعود أطال بقية الأركان، وإن قصر قصر.
والإطالة لها أسباب، فقد يطيل بعض الصلوات كما أطال صلاة الكسوف إطالة زائدة، وكما أطال صلاة التهجد, صلاة التهجد التي هي قيام الليل، ليلة في رمضان قرأ في ركعة واحدة نحو خمسة أجزاء: البقرة، ثم النساء ثم آل عمران أكثر من خمسة أجزاء، قرأها في قيام واحد، ثم ركع فأطال الركوع، فهذا دليل على أنه كلما أطال القيام أطال ما بعده، ولكن لا يلزم التساوي، لا يلزم مثلاً أن قيامه إذا كان نصف ساعة يكون ركوعه نصف ساعة، بل يطيله بقدره.
وبكل حال فإن الأذكار قد وردت، ورد في الركوع قوله: ((سبحان ربي العظيم)) وورد أنه يعظم فيها الرب في قوله: (( فعظموا فيها الرب))، وتعظيم الرب يكون بالألفاظ الدالة على العظمة سواء من القرآن أو من غيره، فإذا قال مثلاً في الركوع إذا قال في الركوع دعا في قوله مثلاً: ((اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض))، وما أشبه ذلك، أو قال مثلاً: {اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } إلى آخره، فهذا يعتبر تعظيماً يكون مناسباً في الركوع. وإذا أتى في السجود بالدعاء أو بالتسبيح فقد امتثل ما أمر به؛ لأنه مأمور في السجود بأن يكثر من الدعاء، سواء أدعية قرآنية كأن يقول: { ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أو { ربنا لا تزغ قلوبنا } أو { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } أو أدعية نبوية يعني من الأدعية النبوية الواردة كقوله: (( اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً )) أو (( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت )) وما أشبه ذلك من الأدعية يعتبر أيضاًَ ممتثلاً.
فالحاصل أنه إذا.. أنه يشرع أن يشغل هذه الأركان بالذكر وبالتسبيح وبالثناء على الله تعالى وبالدعاء؛ حتى يأتي فيها بروح الصلاة وبلبها وهو الخشوع والخضوع وحضور القلب.
أما الحديث الثالث فيتعلق بإطالة ركنين وهما الرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين، يذكر أن أنسًا رضي الله عنه كان إذا رفع من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي؛ من طول وقوفه، وإذا جلس بين السجدتين مكث حتى يقول القائل: قد نسي؛ يعني من طول مكثه. قد يكون هذا مخالفاً لحديث البراء، فإن حديث البراء يفهم منه أن ركوعه ورفعه على حد سواء متقاربات، وكذلك سجدتيه، والجلسة بينهما، أنهما سواء متقاربات، فكيف يكون أنس مطيل لهذين الركنين حتى يقول القائل: قد نسي؟!
الجواب: أنهم رأوا كثيراً من الناس يخففون هذين الركنين تخفيفاً زائداً، فصاروا إذا رأوا من يطيلهما ظنوا أنه قد نسي، أو قد أوهم أو قد سهى، وإلا فالإطالة ليست إطالة غريبة. الآن نحن نشاهد كثيراً من الناس إذا رأيتهم يصلون الصلاة وحدهم، أو يصلون نافلة فإنك تراه مثلاً إذا ركع تراه راكعاً، ثم إذا رفع من الركوع لا تقول: صلب، بل يرفع قليلاً ثم يخر ساجداً ولا يقف، لا يتم وقوفه. هذه عادة سيئة وهي أنه يطمئن في الركوع ولا يطمئن في الاعتدال، بل يرفع قليلاً وقبل أن يصلب قائماً ينحني، ما تقول:انصلب صلبه ولا وقف، بل إذا رفع وقارب من الرفع خر ساجداً.
ومثل ذلك أيضاً تخفيفهم للجلسة بين السجدتين، فتراه مثلاً ساجداً مطمئناً في سجدته ولكن إذا رفع رأسه للجلسة بين السجدتين لم يجلس، إنما يرفع قليلاً وقبل أن يستتم جالساً يخر للسجدة الثانية، يسجد الثانية ولا يفصل بينهما بجلسة فيها طمأنينة. فكأن الذين كانوا يصلون في وقت أنس كأنهم كانوا يخففون هذين الركنين تخفيفاً زائداً عن غيرهما من الأركان، فأنكروا عليهم بفعل أنس، أنس كان يطمئن فيمكث في الرفع بعد الركوع وفي الرفع بعد السجدة الأولى مكثاً زائداً على ما يفعلونه، فإذا صلوا معه ظنوا أنه قد أوهم، وأنه قد نسي في زيادته لهذا الفعل.
فالحاصل أنا نلاحظ وتلاحظون هؤلاء الذين يخففون هذين الركنين، أو يخففون غيرهما من الأركان، فإذا لاحظت ذلك فعليك التنبيه وإخباره بأن هذه صلاة ناقصة؛ وذلك لعدم الطمأنينة فيها، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، تذكرون حديث المسيء صلاته ماذا أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: ((ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ)) ثلاث مرات كلما يعيده، ما الذي أنكر عليه؟ أنكر عليه تخفيف الصلاة وترك الطمأنينة فيها، ولهذا نبههه وقال له: ((اركع حتى تطمئن راكعاً، ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداًً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) فأكد كلمة تطمئن، الطمأنينة الثبات والركود فما لم يطمئن في أركان صلاتة فإنه كما يقال له في هذا الحديث:((ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ))، فانتبهوا وفقكم الله، وكذلك نبهوا إخوانكم الذين يخففون هذه الأركان حتى تكون صلاتهم مجزئة، ومقبولة إن شاء الله.

القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم.
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
وعن أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة أصلي كيف رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فقلت لأبي قلابه: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا. وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض. أراد بشيخهم أبا بريد عمرو بن سلمة الجرمي .
وعن عبد الله بنمالك بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه.

الشيخ:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
فالحديث الأول عن أنس رضي الله عنه، ذكر أن صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت خفيفة تامة، وأنه ما صلى خلف إمام أخف ولا أتم من صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وذلك لأن أنسًا رضي الله عنه صلى خلفه عشر سنين كان ملازمًا له؛ لأنه كان يخدمه فكان ملازمًا له في السفر وفي الحضر، هذه المدة عشر سنين لا شك أن لها أثر، أن لها أثر في معرفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم صلى بعده على بعض الأئمة..خلف بعض الأئمة، كالخلفاء، وكذلك أئمة في البصرة؛ لأن أنسًا انتقل إلى البصرة واستوطنها حتى توفي بها.
فيذكر أن الذين صلى خلفهم لم تكن صلاتهم مثل صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخفة والتمام، والحاصل أنه يفيد أنها تامة، وكذلك خفيفة، تمامها أنه يتم الأركان، يتم الركوع والسجود ويطمئن فيها اطمئناناً كاملاً، ويأتي فيها بالأذكار تامة.
ثبت في حديث عن أنس نفسه رضي الله عنه أنه صلى خلف عمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً علي المدينة، يقول: فشهد لعمر بأنه كان أشبه صلاة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحسبوا أو فحذروا تسبيحاته في الركوع والسجود عشراً عشراً، يعني أنه إذا ركع سبح عشرًا بقوله: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد سبح عشراً بقوله: سبحان ربي الأعلى، فهذا هو التمام...

الوجـه الثانـي

... أتم، يعني أن التمام كونه يأتي بها باطمئنان. وجد بعده من يطيل في القراءة ويخفف في الركوع وفي السجود، أو يطيل فيها جميعاً إطالة مملة، أو نحو ذلك، أنكر عليهم أنس وقال: خففوا وأتممو. لا تنقروها نقرا فتكنون مخالفين للطمأنينة، ولا تطيلونها إطالة طويلة فتكونون منفرين، بل استعملوا الوسط الذي هو التمام، والتخفيف الذي ليس بمنفر.
وقد تقدم أن بعضهم استدل بحديث معاذ في النهي عن الإطالة على النقر، أنهم استدلوا به على النقر في الصلاة النقر الشديد فيقال: ليس الأمر مع هؤلاء النقارين الذين ينقرون الصلاة نقراً، ولا مع أولئك المنفرين الذين يمكث أحدهم في الصلاة ساعة أو أكثر فيكون بذلك منفراً، بل الوسط هو خير الأمور. وبعد الأذان نكمل.
في الحديث الثاني: حديث أبي قلابة ذكر أن مالك بن الحويرث جاءهم في مسجدهم وصلى بهم، ولم يكن قصده أن يصلي في ذلك الوقت، ولكن قصده أن يعلمهم صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته التي تلقاها عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان مالك بن الحويرث ممن تأخر إسلامهم، فهو وفد إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة العاشرة في آخر حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أهل البحرين أي من أهل الشرق في ذلك الوقت، لا يأتون إلا من مكان بعيد، يأتون بجهد ويقطعون مسافة طويلة في زمن طويل، يقول مالك بن الحويرث: إننا أتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقمنا عنده عشرين يوماً، فلما رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا قال: ((لو رجعتم إلى أهليكم وعلمتموهم ما تعلمتم)) وقال لهم:((صلوا إذا حضرت الصلاة،فليؤذن لكم وليؤمكم أكبركم)) وأمرهم بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فأخبرهم بأنه عليهم أن يقتدوا به في هذه الصلاة التي تلقوها بالفعل وكذلك تعلموا بقية الأحكام بالقول، فأمرهم في هذه الحال بأن يقتدوا به.
لاحظ..أو جاء مالك بن الحويرث إلى مسجد أبي قلابة وبين لهم الصلاة فصلى بهم، ثم إن الذين رووا عن أبي قلابة سألوه ما كيفية صلاة مالك بن الحويرث؟ فأخبر بأنه يصلي بهم كما يصلي بهم شيخهم في ذلك الوقت إماما كبير السن، الشيخ: يراد به الطاعن في السن، إذا قالوا: شيخنا فالمراد به كبير السن، هذا هو الشيخ في اللغة، ليس المراد به العالم، فأطلق عليه شيخًا لكونه كبير السن.
وكان عمرو بن سلمة هذا أبو بريد عمرو بن سلمة الجرمي كان قد أسلم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لم يره ولم تثبت صحبته لكونه صغيراً، ذكر أنه كان في صغره يتلقى الركبان ويتعلم منهم القرآن الذي تعلموه، فحفظ قرآناً كثيراً أكثر من غيره، فلما جاء وفدهم من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: إنه يقول: يؤمكم أقرؤكم، أو أكثركم قرآناً لم يجدوا أكثر من عمرو بن سلمة فقدموه إماماً لهم مع صغر سنه كما ذكر في بعض الروايات أنه كان صغير السن، ولكنه كان أكثرهم قرآناً فقدموه.
ثم ذكر أنه ما صحب قوماً بعدهم إلا صار إماماً لهم، كل من صحب قدموه ورضوا بإمامته، فكان يصلي بالمسجد الذي فيه أبو قلابة، أبو قلابه تلميذ لأنس، وتلميذ للصحابي وهو من أجلاء التابعين.
فالحاصل أنه ذكر أن عمرو بن سلمة في صلاته كان إذا نهض من السجدة الثانية ليقوم للركعة الثانية جلس قبل أن ينهض، لم ينهض حتى يستوي جالساً، هكذا كان يفعل شيخهم ذلك الذي هو عمرو بن سلمة. فاستدلوا بهذا على مشروعية هذه الجلسة، وسموها جلسة الاستراحة، وقد اختلفوا في مشروعيتها، هل تشرع جلسة الاستراحة التي فعلها عمرو بن سلمة أم لا؟ وهل عمرو بن سلمة تلقاها عن أحد أو فعلها استحساناً؟ وهل إقرار أبي قلابه أو تشبيه أبي قلابة لصلاته بصلاة مالك بن الحويرث في جميع الصلاة كلها حتى في هذه الجلسة، أو في معظم الصلاة وفي كيفيتها، في طولها وفي قصرها، وما أشبه ذلك؟
الأقرب أن أبا قلابة يقول: إن صلاة عمرو بن سلمة أقرب إلى صلاة مالك بن الحويرث وأشبه بها، في كونه يطمئن وفي كونه يتم الركوع والسجود وفي كونه يقرأ كما يقرأ، وفي كونه يخشع فيها، ولا يمكن أنه لم يذكر أو لم يذكر أن من فعله هذه الجلسة،وإنما ذكرها الذي روى عن أبي قلابة، يعني نقل عن عمرو بن سلمة أنه كان يجلس هذه الجلسة، فبعض العلماء ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة كالشافعية، ورأوا أنها من سنن الصلاة، إذا قام من الركعة الأولى قبل أن ينهض جلس ثم قام، وإذا قام من الركعة الثالثة قبل أن ينهض جلس ثم قام.
وأكثر الأئمة..الأئمة الآخرون لم يستحبوها ورأوا أنها ليست مستحبة ولا مشروعة وقالوا: إنها لم تذكر في الأحاديث، وان الأحاديث الكثيرة والسنة التي فيها صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تذكر فيها هذه الجلسة، فدل على أن عمرو بن سلمة ما فعلها عن دليل، وإنما فعلها عن كبر؛ لأنه كان قد طعن في السن ففعلها لأجل أن يرتاح قبل أن ينهض، فكان هذا هو السبب في فعله لها. وعلى هذا لا تكون من سنن الصلاة، وبعض العلماء قال: ما دام أن أبا قلابة شبه صلاة عمرو بصلاة مالك،ومالك صحابي، فإنا نثبتها كما أثبتها، ولكن نقول: لعلها خاصة بكبير السن، أو بمن احتاج إليها لضعف أو نحو ذلك، فأباحوها لمن هو كبير السن كحال عمرو بن سلمة، أو لمن هو مريض يشق عليه النهوض بسرعة من السجود أن ينهض من السجود، وإلا فالثابت المتواتر في صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يكن يجلس، بل كان إذا قام من السجدة الثانية نهض واعتمد على ركبتيه واستتم قائماً، هذا هو المعتاد.
فإذن عرفنا أن فيها ثلاثة أقوال: قول للشافعية استحبوها لأجل فعل عمرو بن سلمة، وقول لأكثر الأئمة لم يستحبوها، وتوسط آخرون وقالوا: يفعلها من هو عاجز لكبر أو مرض، ومن ليس كذلك لا يفعلها، هذا هو القول الوسط الذي جمعوا به بين القولين.
أما الحديث الثالث ففيه صفة سجود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أن السجود، السجود في الصلاة أنه ركن من أركان الصلاة وأنه أهم أركانها، ولذلك من أهميته أنه يكرر في كل ركعة، في كل ركعة يأتي بسجودين مع أنه لا يأتي إلا بركوع، ما يكرر الركوع، ولكن السجود يكرر لماذا؟ لأهميته ولفضله، وقد ورد التعبد بالسجود وحده مما يدل على أنه أفضل العبادات كسجود التلاوة وسجود الشكر، سجدة واحدة يسجد فيها من غير أن يسبقها تحريم ولا ركوع ولا غير ذلك.
كذلك أيضاً جعل جابرًا للصلاة في سجود السهو مما يدل على أهمية السجود، ورد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) وأمر في السجود بكثرة الدعاء في قوله صلى الله عليه وسلم:((إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأماالسجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم )) يعني حري أن يستجاب لكم إذا دعوتم الله في حالة السجود؛ وذلك لأنكم في تلك الحال متواضعون، العبد غاية تواضعه إذا وضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن وجه الإنسان هو أشرف أعضائه، وهو أرفعها وهو مجمع حواسه، فإذا تواضع ووضع وجهه على الأرض كان ذلك غاية التواضع وغاية التعبد.
ولأجل ذلك ورد في صفة السجود ما يدل، أو ما يسبب كمال الخشوع وكمال الذل، فمنها تقدم أنه يسجد على سبعة أعضاء، يمكن هذه الأعضاء من الأرض. ومنها أنه يرفع ذراعيه، تقدم أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع ذراعيه عن الأرض ونهى أن يبسط الرجل ذراعيه في السجود كانبساط الكلب. ومنها أنه كان عليه الصلاة والسلام يتجافى في السجود فكان يرفع رجليه..ينصب رجليه ويسجد على بطون أصابعه، وكان يرفع فخذيه عن ساقيه ويرفع.. أو يجافي بطنه عن فخذيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويتفرج حتى يبدو بياض إبطيه, أحيانا ما يكون عليه إلا رداء، فإذا تفرج بيديه ظهر إبطه من وراء الرداء فبدى بياض إبطيه من شدة تفرجه ومن شدة مجافاته ليديه عن جنبيه.
وهذه الصفة هي الصفة المعتدلة، الصفة المتميزة بالاعتدال، يعني أنها الوسط، فهذه المجافاة يفعلها بقدر استطاعته، فإذا كان إماما تمكن من التجافي، يعني إبعاد عضديه عن جنبه تمكن من ذلك.
أما إذا كان مأموما فالغالب أنه لا يتمكن تمكنا زائدا؛ وذلك لأن المأمومين، المأمومين يصف بعضهم بجانب بعض، ويؤمرون بأن يتراصوا ولا يتركوا بينهم خللا، يؤمرون بذلك فلا يتمكن كل منهم في السجود من المجافاة الكثيرة، بل يتجافون بقدر ما يستطيعون، فكل منهم يجافي جنبه يجافي عضديه عن جنبيه بقدر استطاعته، سواء قلت المجافاة أو كثرت بقدر ما يستطيعه.
أما بالنسبة لمجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين فإنها تكون متوسطة، وقد وصفت في بعض الروايات بأن ينصب فخذيه، أن تكون فخذاه منتصبة يعني: قائمة، يعتمد على ركبته، ويكون فخذه كشبه مرتفعا، يعني قائم لا يميل إلى جهة الساق ولا يميل إلى جهة الأرض، فإن في ميله إلى جهة الأرض شيء من المشقة والصعوبة عليه، وفي ميله إلى جهة الفخذ.. الساق شيء من الكسل أو نحو ذلك
فنرى أن بعض الناس إذا سجد أبعد موضع جبهته بعدا زائدا كمتر أو نحوه ، ففي ذلك شيء من المشقة حيث يشق على نفسه، حتى ربما تجاوز الفراش الذي هو يصلي عليه فسجد على الفراش الثاني، وربما ضايق الصف الذي أمامه إذا كان في الصف الثاني ونحو ذلك، ونرى أن بعضا آخرين يسجد أحدهم قرب ركبتيه، يجعل رأسه، أو وجهه، أو ذقنه قرب ركبتيه فلا يحصل بذلك مجافاة، ولكن الوسط هو الوسط الاعتدال، إذا جعلت بين رأسك وبين ركبتيك مثلا قدر نصف متر، أو نحو ذلك، كان فيه شيء من الاعتدال، وليس فيه شيء من المشقة. هذا هو التفرج الذي ذكر في هذه الأحاديث.

القارئ:
عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاصي بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب))

الشيخ:
هذه من أحاديث صفة الصلاة كما عرفنا متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ومن فعله، أكثرها أخذت من أفعاله حيث أنه القدوة عليه الصلاة والسلام، وأنه يقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) والله يقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {وما آتاكم الرسول فخذوه} فمن ذلك الصلاة في النعلين، كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه، كانت النعال في عهده من جلود الإبل، وكانوا يقطعونها بأيديهم، يعني يخرزها الخراز، يقطع قطعا على قدر القدم، ويجعلها مثلا ثلاثة أطباق، أو أربعة، ثم يجعل فيها سيورا في حافاتها، وفي وسطها، تمسك بعضها ببعض، ويجعل لها شسعا وشراكا.
الشسع: السير الذي يمسك النعل من الخلف فوق العقب.
والشراك: الذي يمسك النعل فوق الأخمص وبين الأصبعين بين الأصابع المقدمة، ويربط فوق الأخمص.
الأخمص: الذي هو وسط القدم، والمنخفض من القدم.
ويحتاجون إلى شدها بتلك السيور وإحكامها وعقدها من الخلف، من خلف القدم وفوق الأخمص، فإذا لبسها فمن المشقة عليه أن يخلعها، فلأجل ذلك كان يصلي بها، وكان يدخل بها المجالس ويجلس بها، وكذلك صحابته كانوا يصلون بالنعال، وما ذاك إلا أنها يصعب لبسها ويصعب خلعها في كل حين؛ لما ذكرنا من كونها تحتاج إلى رباط وعقد فوق الأخمص، وكذلك فوق العقب بتلك السيور التي من أسمائها الشراك والشسع. فلأجل ذلك رأى أن من الأسهل عليهم الصلاة فيها.
ثم اشترط لذلك شرطا وهو تفقدها عن الأذى، في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا أتى أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى فيهما أذى أو قذرا فليمسحه وليصلي فيهما)) فأمر بتفقدهما بأن يقلبها وأن ينظر فيها، وأن يتحقق من نظافتها ومن نزاهتها، ثم بعد ذلك له أن يصلي فيها.
كذلك ثبت أيضا أنه صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة فيها أو أمر بذلك مخالفة لليهود فقال: ((إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم)) أي فصلوا في نعالكم مخالفة لهم، فجعل ذلك مقصدا من مقاصد الشريعة.
نقول: هذا التشدد لا ينبغي، بل الحذاء إذا كانت نظيفة فلا مانع من دخول المساجد والبيوت بها، بشرط التنظيف ونحو ذلك، وإنما جعلت عند الأبواب ونحو ذلك لما رؤي من التساهل من بعض الناس أو من كثير منهم. ففي هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي في نعليه، يصلي فيهما قيامًا وقعودًا وركوعًا وسجودًا.
وحدث مرة أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الصحابة نعالهم، فأخبرهم بأن جبريل أخبره بأن فيها قذر أو أذى فخلعها، فدل على أنه إذا صار فيها شيء من القذر فإنه يخلعها، ويستمر في صلاته. هذا ما يتعلق بالصلاة في النعال.
أما الحديث الذي بعده يتعلق بشيءٍ من العمل في الصلاة، روى أبو قتادة هذا الحديث، ذكر فيه أن المسلمين بينما هم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة خرج عليهم وقد حمل هذه الطفلة، حملها على يده، وهي طفلة هو جدّها اسمها أُمامة بنت زينب، أمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أبوها أبو العاصي بن ربيع بن عبد شمس، وهو أول من صاهر النبي صلى الله عليه وسلم، هو زوج زينب بنته، تزوجها بمكة، ولم يسلم مع من أسلم، فإن صهره عثمان رضي الله عنه أسلم في أول الأمر، وأما أبو العاصي فبقي على دين قومه، وخرج معهم لما خرجوا في غزوة بدر وأسره المسلمون، أوثقوه وقدموا به المدينة وهو مع الأسرى.
وأرسلت زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قلادة من ذهب أو من خرز أعطتها أمها خديجة لها فأرسلتها في فداء زوجها، فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم واشترط عليه أن يبعث إليه زينب، فبعث بها، وبقي إلى أن أسلم قبيل سنة الفتح، فردها عليه. وماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أنه كان لها هذه الابنة التي هي أُمامة، كانت عندما جاءت أُمها من مكة مهاجرة كانت طفلة وكان عليه الصلاة والسلام يلين مع الأطفال ويحملهم ويقبلهم، وسيما من له به صلة وقرابة، وذلك دليل على كمال شفقته وكمال رقة قلبه مع الأطفال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه مرة قبل الحسن بن علي فقال لـه الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا فقال: ((من لا يرحم لا يرحم)) أو قال: ((أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة))، فمن رحمته ومن شفقته على هذه الطفلة أنه تقدم وهو حاملها على يده وسوى الصفوف وهو حاملها، وكبر بالصلاة بالتحريمة وهي على يده، وقرأ حتى أراد أن يركع فوضعها على الأرض فركع وسجد وهي على الأرض. ولما قام للركعة الثانية قام بها، حملها معه واستمر حاملاً لها إلى أن ركع فَوضعها، فإذا قام حملها وإذا سجد أو ركع وضعها.
لاشك أن هذا شيء من العمل، ولكنه عمل يسير فيتسامح به، فاستفاد العلماء من ذلك أولاً: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورقته ورحمته بالأطفال والصغار. واستفادوا من ذلك جواز حمل الصبي إذا كانت ثيابه وبدنه طاهرة.
لاشك أنه تأكد تأكد من طهارة ثيابها ومن طهارة بدنها؛ لأنه لا يجوز أن يحمل الإنسان شيئًا فيه نجاسة بل لا يحمل النجاسة حتى ولو كانت في قارورة أو في خرقة مثلاً في جيبه أو نحو ذلك لا يجوز حملها، فأما إذا كانت طاهرة فلا بأس، فهذه لا بد أنه تأكد من نظافتها، معلوم أن الطفل لا يملك أن يحدث أو نحو ذلك، فحدث الطفل مثلاً يعني الحدث الذي ينقض الوضوء لا يبطل بذلك صلاةُ من يحمله، فلذلك حملها والحال هذه.
فاستدلوا بذلك أيضاً على إباحة العمل اليسير، عمله هنا كونه إذا أراد أن يقوم حملها أي وضعها على يده وضمها مثلاً إلى صدره أو إلى جنبه وقام وهو حاملا لها، كذلك أيضاً إذا أراد أن يركع وضعها على الأرض بيديه أو بيده، هذا أيضاً شيء من الشغل وشيء من العمل، فمثل هذا العمل اليسير يُتسامح فيه ويعرف منه أنه لا ينافي الخشوعَ في الصلاة، وليست الحركةُ هذه حركة مبطلةً للصلاة.
الحركة المبطلة للصلاة هي الكثيرة المتوالية كأن يمشي خطوات متوالية بغير حاجة مثلاً، وكأن يكثر من الالتفاف وكأن يكثر من العمل، العمل الذي بيديه مثلاً في تسوية عمامة أو تسوية عباءته أو تسوية شعر رأسه: لفّه مثلاً أو لويه، أو كثرة حركته بيديه أو تشبيك أصابعه: إدخال بعضها في بعض، أو فرقعتها: يعني لويها حتى تصوت مثلاً، أو كثرة مراوحة رجليه ورفع قدم ووضع قدم، أو شغله مثلاً بشيء يشغل قلبه، ككثير من الناس في كل حين ينظر إلى ساعته التي في ذراعه مثلاً، أو يحرك شيئًا من ثيابه أو من بدنه أو ما أشبه ذلك. لاشك أن كثرة الحركة تبطل الصلاة إذا توالت.
ثبت أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يكثر الحركة فقال: منذ كم تصلي؟ قال: منذ ستين سنة، فقال: لو مت لمت على غير الفطرة.
وفي حديث أنه عليه السلام رأى رجلاً كثير الحركة فقال: ((لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه))، فأما الحركة اليسيرة مثل هذه الحركة فلا تنافي الصلاة.
قد ثبت أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة النفل إذا طرقت عائشة الباب تقدم وفتح الباب لها، يعني خطوة أو نصف خطوة ومد اليد وفتح الباب لها، هذا أيضًا عمل يسير. وثبت أيضًا أنه عليه السلام كان مرة يصلي وقد بعث أحد أصحابه يلتمس خبرًا فجعل يلتفت إلى ذلك الشعب الذي بعثه معه وينظر هل جاء، يلتفت التفاتًا يسيرًا، فمثل هذا الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة وكذلك النظر.
المصلي مأمور بأن يأتي بالأسباب التي يحصل بها حضور قلبه ويخشع في صلاته، وذلك بكثرة الذكر والقراءة وتأمل ما يقول، وكذلك أيضًا بقلة الحركة وبسكون الأعضاء.
أُمر المصلي بأن يجعل يديه على صدره فيمسك إحداهما بالأخرى ويضعهما على صدره حتى يسكن حركته، ويصفَ قدميه ولا يراوح بينهما إلا لضرورة، أُمر أيضًا بأن ينظر إلى موضع سجوده ليكون ذلك أجمع لقلبه؛ حتى لا يتشتت عليه إذا رفع بصره، نهي أيضًا عن رفع البصر وعن النظر إلى السماء حتى هُدد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن))، وفي رواية: ((أو لا ترجع إليهم أبصارهم))؛ وذلك كله محافظة على أسباب حضور القلب وعلى الخشوع في الصلاة.
من سنن الصلاة قبض اليد اليسرى باليد اليمنى ووضعهما على الصدر، أو على البطن، هذا من السنن وليس من الواجب، والدليل على أنه يجوز تركه ما في هذه القصة، فمعلوم أن الأغلب من الذي يحمل شيئًا ثقيلاً كحمل طفل ونحو ذلك أنه يحمله بيد، فاليد الأخرى لا يمكن أن يقبضها، فدل على أن قبض اليدين ووضعها على البطن من السنن يسقط إذا اشتغل الإنسان بمثل هذا أو إذا لم يتيسر لـه ذلك لبعض الأسباب.
هذا عند الجمهور. المذهب المالكي: أنه لا يُسن، تجدون المالكية يسدلون أيديهم، في صلاتهم يدلون أيديهم ولا يرفعونها ولا يقبضونها ويزعمون أن ذلك هو مذهب مالك.
قد ذكر العلماء أن مالكًا رحمه الله لم يكن يقبض يديه لعذر، لا أن ذلك من السنة؛ وذلك لمرض في يديه، لأنه لما أذي أذي وضرب بأمر بعض الخلفاء،كانت الضربات في عضديه وفي يديه وفي ذراعيه، فتأثر منهما، هذا هو الظاهر، فرأى أن الأيسر والأسهل عليه أن يدلي يديه ويسدلهما في حالة الوقوف وفي حالة الرفع بعد الركوع.
فأخذ ذلك بعض أصحابه وجعلوا ذلك سنة له واقتدوا بفعله في ذلك، هكذا اعتذر بعضهم، وإلا فقد ثبت في الحديث الذي في الموطأ نفسه أنه نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض يده اليسرى بيده اليمنى يقبضها، فدل على أنه لا يروي ذلك ويترك العمل به، فعلى كل حال هذا من سنن الصلاة. هذه من نوافل أو من صفات الصلاة .

...........................

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق